إلى أيّ مدىً يمكن اعتبار الاهتمامات المشتركة بين أفراد الأسرة عامل دعم وازدهار للمبدع؟ وما الذي يُحوّل ذلك المُشتَرك عبئًا يدفع أحدهم لعرقلة الآخر أو اجتثاثه؟ في عالمنا العربي نعرف الأخوين حسين وجلال أحمد أمين اللّذيْن جمعهما الاشتغال بالثقافة وشغف الكتابة، فكان حسين يقول عن جلال إنه أعظم مفكّر في مصر، وجلال دائم الاعتراف بأُثر أخيه الأكبر، حتى أنّه عندما كتب سيرته الذاتية أهدى الجزء الثاني «رحيق العمر» إلى حسين. شكّل الأخَوان فنسنت وثيو فان كوخ الثنائيَّ الأشهر في عالم الفنّ التشكيلي، ولاغرابةَ في أنهما بدآ عملهما بفارق بضع سنوات في الشركة الدولية للفنون، حيث تولّى فنسنت -الأخُ الأكبر- أعمال الشركة في لاهاي، بينما أُرسِل ثيو إلى بروكسل لتغطية حيّز جغرافي يتّسم بارتفاع التقدير للإبداع، وازدهار الطلب على الفنون. لم تتمكن المسافات من فصل الروحين، كان فنسنت يخاطب ثيو في رسائله قائلًا: «ليس لديّ أصدقاء عَداك، وعندما أعتلّ تحضر في تفكيري على الدوام»، فقد ظلّ ثيو أخًا محبًّا مواسيًا. في نفس الحقبة، وفي إحدى ضواحي باريس، تتوازى أُخوّة أخرى بين النحّاتة كاميل كلوديل وأخيها المقرّب؛ الشاعر والكاتب المسرحي بول كلوديل الذي يصغرها بأربعة أعوام، ينبغ كل منهما باكرًا في فنّه، ففي السادسة عشرة تلتحق كاميل بأكاديمية «كولاروسي» في باريس، وتُصقل ملكتها على أيدي كبار النحاتين. كان للأخوين كلوديل أثرٌ تناضحيّ في بداية مسيرتهما، حيث قدّم بول شقيقته للأوساط الثقافية، وعرّفها على روّاد المدرسة الرمزية خاصة، كما عرّجت كاميل بأخيها على فنون العوالم القصيّة مرورا بالاتجاه الياباني، غير أنّ هذا التعاضد لم يُكتب له الاستمرار طويلا، فبالإضافة إلى تحقّق بول في الكتابة، اختطّ لنفسه مسارًا مهنيًّا آخر في السلك الدبلوماسي، ما حتّم قضاء سنوات طويلة خارج فرنسا، في الوقت ذاته الذي مرّت فيه كاميل بتحوّلات جوهرية في مسارها المهني والعاطفي، واتضح طريقها في الاحتراف بعملها مساعِدةً وملهمةً للنحّات الشهير أوغست رودان، كما استقلّت عن عائلتها واتخذت مقرا مجاورا لورشته، لكنّها تعثّرت معه في علاقة عاطفية مضطربة، أفقدتها اتّزانها، وأدخلتها في دوّامة من الهواجس، دفعها ذلك إلى الانفصال عن رودان، ثمّ عملها لحسابها الخاص، وبسبب نوبات الإحباط التي ظلّت تعتريها، كانت ما تلبث أن تفرغ من عمل نحتي مضنٍ حتى تُحطّمه. على الجانب الآخر، راح ثيو يقترب من فنسنت فيدعوه للعيش معه في باريس، فلا أفضل في اكتساب الخبرات من الانغماس في الوسط الفني الثرّ في فرنسا؛ حاضنة روّاد المدرسة الانطباعية، أثناء تلك الإقامة اطّلع ثيو على طباع فنسنت عن قرب، وتبيّن أنّ لأخيه شخصيّتين؛ الموهوب اللطيف والآخر الأناني القاسي، ثم قرّر فنسنت الرحيل إلى الجنوب الفرنسي المُشرق حيث راودته فكرة محترف فني يتقاسم فيه التجريب مع مجايليه. لم يتخلّ ثيو عن أخيه ولو كان مشروعه موغلًا في الطموح، فسعى معه إلى تحقيقه بكل الوسائل، كما فاوض الفنان بول غوغان كي يصحب فنسنت إلى «آرل». مضى كلٌّ من فنسنت وكلوديل إلى مصحٍّ عقلي على حدة، قَضَيا فترات متفاوتة، خرج فنسنت ثم عاود الدخول، متعزّيًا بالرسم والرسائل، وظلّت علاقته بثيو متّصلة في الكرب مثل السعة. وكذلك فعلت كاميل مع أخيها المقرّب، البعيد في أسفاره، راستله متوسّلة لا بالعلائق الإنسانية، والصِّبا الذي جمع أحلامهما، بل بقسوة الشتاء، والحطب الذي لم يكفِ لبث الدفء في جسدها، لكنّ بول لم يستجب، ثم أتى قرار الأسرة بنقلها إلى مصحّ آخر أمضت فيه بقية حياتها. غادر فنسنت المصحّ، وعاد يصارع هواجسَه وآلامة الوجودية، وحين أقدم على الانتحار، سارع ثيو إليه لكنّه وصل بعدما إصاب نفسه بجرح بليغ، فلم يفارقه حتى فاضت روحه، ويبدو أنّ الأخ الأصغر لم يطق مصابه، وما هي إلّا ستة أشهر حتى توفي هو الآخر. بينما قضت كاميل ثلاثين عامًا في المصح، وماتت وحيدة في السبعين، لكنّ أثرها تسرّب في كتابات أخيها كما لاحظه النّقاد، ولعلّها آثرت أن تبقى في ذاكرة بول عبر المصاحبة الحانية في عالم الكتابة، عِوض أن تكون مصدرا قاسيا لتأنيب الضمير. بول كلوديل ثيو فان كوخ