بجهودٍ شخصية تستند إلى الشغف والإيمان بقِيم الجمال، أنشأ الفنان والخطّاط الكبير مسعد خضير البورسعيدي مُحترَفَه المختصّ بالخط العربي، يعمل فيه ويلقي محاضرات ويقدم ورشا ودورات، كما يستقبل زوّاره من محبي الفن في متحف لا تظهر ألوان جدرانه لكثرة ما عليها من أعمال، متحف يفتح بابه كل يوم من بعد الظهيرة إلى قبيل الفجر. ما إن تدخل حتى تلحظ أن على يسار المكتب عبارة مخطوطة تقول: «عفوًا.. نرجو الحديث فيما يفيدنا جميعا من معلومات فنّية، والابتعاد عن سير الزملاء والتلاميذ من قريب أو بعيد»، إنه الخطاط المجدد والمهجوس بالحرف العربي ورسمه، الذي قضى سبعين عاما في تعلّم فنونه وإنتاج أعمال راقية لاقت استحسان المتذوقين وأثرت حفيظة المنافسين، ولوعيه بقيمة الوقت مساحة خصبة للإنتاج والإضافة فإنه ينأى بنفسه ومجالسيه عمّا يفوّت فرصة الانغمار في النصوص الأدبية ورسمها، لتتزين بها الفراغات كما هو الحال مع مجالات التشكيل والفنون البصرية. لا يباشر الأستاذ خضير بالمسودات الأولى إلا بعد أن تروقه العبارة، لأنه -كما يصف نفسه- شديد التأثّر بالنصّ والمعنى، ولِوَقع الكلمة عليه سُلطة يمكن أن تشقّ مسلكا فارقا في حياته، فأول ما قاده إلى دوحة الخط العربي عبير الشعر: «الخَطُّ يَبْقَى زَمَانًا بَعْدَ كَاتِبِهِ.. وَكَاتِبُ الخَطِّ تَحْتَ الأَرْضِ مَدْفُونًا». دفعه ذلك البيت في بداياته لتحمّل تكاليف أجود الأحبار والأصباغ لإطالة أعمار لوحاته وخاصة لافتات المؤسسات والمحالّ التي عمل عليها، حتى أنّها صارت وجهة للباحثين عن أفضلها، يصوّرونها أو يوردون ذكرها في أبحاثهم وكتاباتهم، ونالت أعماله من الشهرة والقبول ما دفع أصحابَها إلى الاحتفاظ بها اعتزازا، وعدم استبدالها بلافتات جديدة رغم تجاوز بعضها الستة عقود. إنّه يشحذ شغفه بالتجدّد وهو يقول: «الموسيقى أُذُن، والخط عَين»، وقد آلى على نفسه ألّا يكرّر عملا، لذا فاللوحات تعرب عن فرادتها فلن نجد بينها ما تشبه سابقتها، ما صعّب عليه قرار التفريط فيها للمقتنين، باعتبارها جزءا من كينونته التي لا ينفصل عنها، فهو يسكن في نفس البناء المخصص للمتحف، تتوزع أعماله على جدران الغرف المجاورة، كأنما نسله يحفّه وهو على مشارف الثمانين. الساعون لزيارة مُحترَف الفنان كثُر، هم طلبة كونيّون من ثقافات متعددة شرقية وغربية، جمعهم حبّ الخط العربي وجدّية تعلّمه، يستمرون في التدرّب بإشراف مباشر من الأستاذ المخضرم إلى حين إجازتهم، والغرابة أنّها بلا مقابل، إنّها هدية خضير البورسعيدي الفريدة لمريديه في عالم الفنّ. أما علاقته العميقة بالحرف واللغة فلا يمكنها تمييز نوع الخط الذي يرتضيه للعمل، إنه يترك القرار ليده بعد التفكّر في الكلمة وتأمل المعنى، ويسعى على الدوام للتجديد والاستحداث في فنّيات الخط الذي يختاره، فيمكننا بقدر من التمرسّ في قراءة الأعمال أن نهتدي إلى الخطاط الذي أنجزها، ولخضير البورسعيدي تحديدا عبر سماتها الخاصة. المدهش في حالة الفنان هنا أنّه وفي هذه السنّ وبعد مسيرة السبعة عقود، ورغم سعي المؤسسات الكبرى لتصميم شعاراتها ولافتاتها بخطّه وتصميمه، إلّا أنه يتخلّص مع ذلك من جبروت الأنا والانتصار للمديح ومجالب الصيت، فيحدّث نفسه بالنقص والتقصير دافعا ذاته للإتقان والاقتراب من جوهر الجمال، فهو يعيش لفن الخط، ولا يتكسّب منه إلا بالقدر الذي يسمح له بالاستمرار في مشروعه الثقافي، ولا يتردد في إهداء أعماله للمؤسسات والمتاحف حول العالم لتبقى شاهدة حضوره وإبداعه. mariam_alzaroni@