كم ممّن عرفنا يشتكي مرضاً ولم يُعرف له سبب، أفضل الأطباء المتخصصين والاستشاريين لا يستطيعون تشخيص مرضه، فربما صداع مزمن، زيادة في ضربات القلب أو عدم انتظامها، إمساك حاد، شعور بالضيق وصعوبة في التنفس، إجهاد وأرق دائم مع فتور جسدي، آلام في المعدة، اعتلال المزاج.. وإن اجتمعت تلك الحالات وبعد تشخيص كامل وفحوصات دقيقة معملية وإكلينيكية سينتهي الأمر بأنه حالة نفسية مجرّدة! تلك هي "الجسدنة" وهي حسب التصنيف الدولي للاضطرابات النفسية والسلوكية، مفهومٌ لاضطرابات جسدية الشكل تتمثل في مجموعة من أعراض واضطرابات جسدية يشكو منها الإنسان، دون أن يكون لها سبب عضوي أو تغير فسيولوجي يشخصها، تتمثل هذه المجموعة باضطراب مزمن وشكاوى جسمية متعددة من قبل الشخص، دون سبب عضوي، ولكنها ارتباط مباشر بالضغوط النفسية والاجتماعية، ويجب في تشخيص هذه الاضطرابات وجود شكاوى جسمية مستمرة منذ عدة سنوات، وأن تتضمن ثلاثة عشر عرضاً مرضياً بحيث لا تكون ناتجة عن مرض عضوي مثل: القيء وآلام البطن، والإسهال، وآلام المفاصل والظهر والصدر والدوخة.. ويصاحب اضطراب "التجسيد" غالباً أعراض القلق أو الاكتئاب، بالإضافة إلى السلوك المضاد للمجتمع والمصاعب المهنية والمشاكل الزوجية، وتصل أحياناً إلى تخيلات سمعية مع فهم الواقع بطريقة سليمة، وكثيراً من مواصفات الشخصية الهستيرية، حيث تبلغ نسبة انتشار اضطراب الجسدنة حوالى 45 % من بين المرضى النفسيين بين سن 40 إلى 65 عاماً. وحسب رسالة "هارفارد للصحة النفسية" تؤكد أن ما بين 50–30 % من المرضى الذين يزورون عيادات الأطباء حول العالم، يعانون من أعراض للألم، أو الإجهاد، دون وجود سبب جسدي واضح لها، ويمكن تصنيف بعض هؤلاء الأشخاص، الذين يتوجهون لطلب المساعدة من هذه الأعراض التي لا يمكن تفسيرها، ضمن الأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات الجسدية نفسية المنشأ أو "اضطرابات الجسدنة" Somatoform Disorders، وفي التاريخ الماضي للطب العقلي، كان الرأي السائد يقول: "إن هذه الاضطرابات -التي غالباً ما كانت توضع ضمن حالات الهستيريا-، هي علامة على وجود صراع في العواطف أو المشاعر أو صدمات سابقة لم يتم حلها". وفي بدايات سنوات العشرينات من القرن الماضي بدأ استخدام مصطلح "الجسدنة" "somatization" الذي حدد تعريفه بأنه: تحويل الواقع العاطفي إلى أعراض جسدية. أفراد مجتمعنا من كل الأعمار والطبقات الاقتصادية والبيئات الاجتماعية المختلفة يعانون ضغوطاً حياتية عدة مع تغيرات الزمن المتسارع، ورسائل سلبية نفسية تملؤهم حد الضجيج، وأسباباً هنا وهناك، حتى غدت المشكلات النفسية تتفاقم بازدياد، ولكنهم لم يزالوا حساسين نحو كل ما يخص "الطب النفسي"، ومازالت كلمة "مجنون" تسبب رهاباً وتسيطر على كل من تسول له نفسه بالذهاب إلى عيادة نفسية أو حتى يتفوه بها. "علم النفس" وفروعه وتطبيقاته من أهم العلوم الإنسانية وأقواها علاجاً وفهماً وتحليلاً لسبر أغوار النفس البشرية بكل أبعادها، ولكنه يضاف إلى مسلسل التغييب للتربية النفسية والصحية والإنسانية في ثقافتنا ومدارسنا وجامعاتنا، وحاجتنا ماسة لبناء برامج توعويّة وثقافة نفسيّة توضح أهمية "علم النفس" وتطبيقاته مع دعم دراساته وأبحاثه ومتخصصيه، فالنفس البشرية وكرامتها وصحتها تستحق الكثير!