شهد الوطن العربي بشكل عام، والمملكة على وجه التحديد، في مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، بروز سجالات ومعارك فكرية وتجاذبات سياسية بين تيارات متعددة، كما حاول أحد هذه التيارات تهميش صورة المثقف، واعتمد الخلط في المفاهيم، واعتصم بالمقاربات الثنائية الحدّية القائمة على فكرة «إما معنا أو ضدنا». هذه الممارسات ومثيلاتها أخذت تضيّق على الناس، وخصوصاً استهداف المفكرين، ومحاولة إلغاء المخالفين دون مساءلة أو تصويب، ما أدى إلى الاختناق الفكري والحضاري في تلك المرحلة التي كبّلت المجتمع وأعاقت حركته، الأمر الذي دفع بأحد رموز الثقافة في المملكة البارزين، وعلى رأسهم الشاعر والسفير غازي القصيبي، للتصدي لمثل هذه الأفكار التي تحاول جرّ المجتمع إلى الخلف، ووضع الكمامات على الأفكار النيّرة في الكثير من كتاباته المعروفة. وكان ضحية هذا التشدد أيضاً بعض المفكرين والأدباء والنقاد الآخرين، وإصداراتهم مثل كتب المفكر الدكتور تركي الحمد، وغيره من الكتّاب والصحفيين الذين اتسمت كتاباتهم بالسعي نحو الخروج من الصندوق النمطي المسدود، والتطلع إلى أنوار الفكر المستنير، أسوة بالدول المتقدمة. وقد أشار معالي وزير الثقافة والإعلام السابق د. عبدالعزيز خوجة إلى أنه علم في معرض الكتاب أن كتب تركي الحمد قد منعت، وقد استاء من هذا التصرف وذهب للناشر وطلب كتب تركي الحمد وذلك في رسالة أرادها أن تصل للجميع كما ذكر في «كتابة التجربة». كما قام معالي وزير الثقافة والإعلام أيضاً بإصدار قرار فسح كتب د. غازي القصيبي مؤكداً «إذ ليس لائقاً ألا تتوافر كل نتاجاته الفكرية والأدبية في مكتباتنا». التمسك بالقيم، وخصوصاً القيم والمبادئ الإسلامية السمحة، أمر مطلوب ولا خلاف عليه، ويعد من الثوابت الأساسية في مجتمعاتنا؛ كما أنّ التعامل مع الثوابت والمبادئ الإنسانية للبشر يسهم في تحقيق الانسجام المبني على الكائن الإنساني المتطور، لا سيما أنّ الأنساق القيمية السائدة في الوطن العربي تتمحور حول مجموعة من المعارف والعادات والأخلاق والسمات والقيم والتقاليد التي هي خلاصة تراكمية من القرون الماضية، والتمسك بمضامينها بهذه الطريقة المترهلة يسهم في خنق روح الشباب والإبداع، ويدفع بالمجتمع بالتالي نحو الركود. هذا الخلل في النظر إلى الإرث الحضاري والإنساني أفرز صراعاً ضارياً مسّ المجتمع في الصميم، ونال من عملية التطور والتنمية والتقدم في معظم الدول العربية، إذ إنّ هذه العادات والقيم المجتمعية أصبحت مسلّمات، وشكلت قناعات يصعب المساس بها دون قرار سياسي من الدولة. ولعل موضوع مشاركة المرأة في التنمية في بلادها يعد أحد هذه الأمور التي واجهت مقاومة شرسة من مفاعيل هذه العادات والتقاليد. مقاومة التجديد والتطور حرمت المجتمع من نصفه الآخر، وعكست إصراراً بيّناً على التمسك بأفكار تجاوزها الزمن، وهي نظرة تصدر عما يسمى بال patriarchy أو»البنية البطريركية والنظام الأبوي» للمجتمع التقليدي الذي سبق أن شخّصها بعمق المفكر العربي هشام شرابي، والتي تتركز حول عدم التفاعل مع مقتضيات العصر الحديث، وخصوصاً موضوع تمكين المرأة والاشتباك مع مسائل التقنية والتقدم والانفتاح على الثقافات الأخرى. الشعوب تتعلّم وتعلّم. العالم تغيّر من حولنا ولم نعد نستطيع مجاراة الأفكار والمتطلبات الحديثة بوسائل وأدوات الماضي. لا نستطيع أن نبدع أفكاراً جديدة بعقول قديمة تكلست وأصبحت ذات رؤية ماضوية أحادية متصلبة. لقد بات من الضروري التحرك ومواكبة التطورات التي يشهدها العالم فكرياً وتقنياً وثقافياً وحتى اجتماعياً. إنّ تبيئة الجيل الجديد على مفاهيم تتسق مع التطور الذي تشهده المجتمعات المتقدمة، وضرورة زيادة الوعي، والاستمرار بعملية التغيير والتحولات، ومقاربة المفاهيم الحديثة، والأخذ بأنماط التمدن، والتشبّث بثقافة الانفتاح، نماذج مضيئة للعهد الزاهي لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورؤيته الحكيمة 2030 التي مثلت بلسماً وترياقاً لكل ما ابتلينا به في السابق من ركود وأفكار جامدة، كما أسهمت في الانفتاح التي تشهده المملكة من حراك بنّاء ونهضة شاملة وتواصل مع المجتمعات الأخرى في الميادين كافة، وهذا ما يجسّد الاشتباك بثقة مع استحقاقات الحداثة والارتقاء. وبلا ريب، فإنّ ما تشهده المملكة من إنجازات ومتغيرات اجتماعية يأتي في مقدمتها تمكين المرأة ومشاركتها الفاعلة في بناء المجتمع الجديد وأخذ دورها الطبيعي في إثراء التنمية الشاملة وقضايا المجتمع المختلفة، يعكس بجلاء الرؤية الثاقبة والوعي الواضح للقيادة الحكيمة ووعيها بمتطلبات المرحلة المقبلة، وبما يحقق طموح المجتمع السعودي وسعيه إلى حياة أفضل، وفق رؤى استراتيجية سليمة مع ثبات على المبادئ الإسلامية، بعيداً عن الذهنية العتيقة، وعقلية الهيمنة والاستحواذ واحتكار اليقين، واحتقار الآخرين. التغيّر والتغيير من سنن الكون، ومسايرة الركب الحضاري واعتماد مفاهيم التنمية المستدامة واجب المجتمعات الحية المتقدمة، وجزء أصيل من مسؤولياتها تجاه الأجيال المقبلة. وما الأخذ بهذه المفاهيم والأنماط الفكرية التنموية إلا تجسيدٌ إبداعي لرؤية ومكانة المملكة التي تستحقها، وتلبي من خلالها تطلعات الشباب الذي يمثل غالبية الشعب السعودي ورؤيته المستقبلية، وحلمه المتواصل نحو التقدم والازدهار والإبداع.