في داخل كل إنسان يوجد محارب كما في ملاحم هوميروس، ففي الإلياذة يوجد آخيل الشخصية المحصنة عن كل شيء حتى الموت. ونحن كذلك بداخلنا محارب سل سيفه للعراك مع شيء ما خفي. إن الصراعات الداخلية التي نعيشها، سواء صراعات داخلية مع المبادئ والأفكار والرغبات، أو صراعات خارجية مع الآخر، وصعوبات الحياة، كفيلة بتوليد حالة من العدوانية الشديدة، والسؤال الذي يلح علي الآن: هل فعلاً الوضع الاقتصادي هو الذي يتحكم فينا وفي انفعالاتنا، سعادتنا وفرحنا، حزننا وشقائنا؟ وهل هناك اقتصاد آخر قد يمنحنا الطمأنينة كالاقتصاد الاجتماعي والأدبي؟ إن العلاقة بين الاقتصاد والعلوم علاقة وثيقة، ولعلي أذكر هنا دانتي، الذي وضع في كتابة الأدبي «الكوميديا الإلهية» الأسس العامة للاقتصاد الأدبي، حيث أصبح هذا الكتاب بمنزلة منهجية أدبية يسير عليها اللاحقون، ولكن بتفصيلات موسعة ومختلفة وحسب الزمن ومتغيراته، حيث يخاطب الاقتصاد الأدبي الروح الإنسانية محاولاً تنقيتها من الصراعات المادية التي زرعها الاقتصاد السياسي، فهو يدعو إلى روح القناعة والنظر إلى الأشياء بمنظار روحاني إنساني، بينما الاقتصاد السياسي يدعو إلى الجشع والطمع والتعامل مع كل ما يحيط بنا بلغة المادة، التي سببت الاضطرابات والنزاعات والخلافات بين أفراد المجتمع. ومنذ ميداس ما فتئ الأدب يندد بالاقتصاد السياسي، ولميداس حكاية، حيث كان ملكاً على بقعة صغيرة، أراد أن يكون له نفوذ بتوسيع سلطان مملكته، ومثل هذا الطموح لا يتحقق إلا بالثروة، وعندما أكرم أحد الناخبين الشيوخ كافأه باخوس بتلبية أي رغبة يتمناها، فتمنى الغبي أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب، فكان أن حتى مياه الشرب ومأكل المائدة تحولت إلى ذهب، فهرع إلى باخوس فوراً ليوقف هذه المهزلة أو هذه المأساة، فنصحه إله الخمرة أن يغتسل بماء نهر يتدفق من ينبوع بين صخرتين، دعاه الانسجام والتكيف مع الطبيعة، واغتسل الرجل فشفي، وقد عرف فعل الندامة، وتراجع عن رغبته سريعاً، لكن الأدب بعد ذلك لم يطلعنا على رجل عرف فعل الندامة سريعاً مثل ميداس، فالأغلبية لا يظهر عندها الندم إلا متأخراً. وهذه القصة توضح لنا مقدار الجشع في الإنسان ونظرته المادية المجردة تجاه كل شيء، والاقتصاد يسلّع كل شيء حولنا، فهو ذو سطوة على الأسواق الاستهلاكية، ومتغول وحدّي جداً، لذلك لا بد أن يجابه بالاقتصاد الأدبي من أجل خلق توازن، فهو يدعو إلى بث روح الحياة. ولطالما كان الأدب مرآة، وشبيها بالكاميرا التي تتطلب مزيجاً من عدسات التصوير المقربة والمكبرة، وهو نمط لا يتحقق إلا عندما تتقاطع العلوم والمعارف. ورغم ما يحمله الاقتصاد من نظريات وأرقام وعلاقات مادية، إلا أنه كان شاسع الحضور في الأدب بجميع فنونه سواء؛ القصة، المقالة، الشعر، الرواية، وكذلك له دور في تحديد مستوى المؤلفين الاجتماعي، وكيفية إنتاجهم، وأيضاً محتوى العمل الأدبي، فهو مؤشر على الوضع الاقتصادي في تلك الفترة. إن تعقد تركيبة النفس البشرية يمثل مصفوفة من التحديات والصعاب التي يواجهها كل فرد يوميا داخل نفسه، ومن أجل إعداد نفس سوية متوازنة، يتطلب نسف كل الصور التي رسمناها عن أنفسنا وعن غيرنا، والعمل بشكل جاد ومتساوٍ مع العلوم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فنحن كبشر لا بد أن نداوي مواضع العجز فينا، فلا يوجد فرد يرغب أن يكون عديم الطعم، ولا توجد أفكار ساذجة، وليست هناك خرائط تفصيلية نتبعها في طريقة عيشنا وتعاملاتنا مع الآخر. إذن؛ لماذا نعجز عن التواصل مع بشريتنا بمفهومها الجديد؟ Your browser does not support the video tag.