لا مقارنه بين واقعنا وماضينا القريب .. لا مقارنة! لقد كنا قبل ستين عاماً فقط نسكن في بيوت من الطين متناهية الصغر بالنسبة لعدد سكانها! .. في بيت الطين الذي مساحته في حدود مائة متر أكثر من عائلة! الأب والابن المتزوج والإخوان .. الأجداد والأحفاد! وكانت الحارات ترابية الممرات مليئة بالمخلّفات، ويتم نقل الزبالة على الحمير - أكرمكم الله - ويطوف بائع القاز على عربته التي يجرها حمار بالحارات! .. ويمر بائع (فرّقنا) أو البائعة وعلى الرأس (بقشة) فيها أردأ أنواع الملابس والموجودات! وكذلك مصلّح الدوافير والسرج والأتاريك! .. أما التكييف فشبه معدوم! .. والمهاف لا تفارق الأيدي في الصيف! .. والصفّة تمتلئ بالنائمين في ليل الشتاء .. وفي حرّ الصيف ينامون في السطوح ! .. وإذا هطل المطر خرّت السقوف! .. وخاف الناس من سقوط البيوت! .. لا يوجد هاتف ولا عناوين ولا تلفزيون! .. توجد الكهرباء في المدن الكبرى والمحظوظ من لديه عداد (5 امبير) ينتفض إذا ولّعت الأنوار الخفيفة ! .. وكثير من البيوت لا يوجد فيها ماء أصلاً .. بل يصلها الماء من (السقّا) الذي يأتي بالقربة فيصبها في براميل ! .. البراميل غير نظيفة والثلاجة زير! .. والمطّارة تقطر والقربة تنزّ ! والقدمان مركوب .. أو الحمار .. قليل جداً من يملك سيارة! قل له ترانا تمدّنا كلّ يولع بدافوره والطرق بين المدن أكثرها ترابية شاقة! لكي تصل الى ديرتي (القصب) من الرياض (150 كيلو) تقضي ثماني ساعات فيها تغاريز ومطاب و(بطانيج) وحنين للسيارة وأنين، و(اللوري) يتمايل كالجمل المسن وفي صندوقه يتناثر الركاب مع العفش والأغنام! وهؤلاء محظوظون فهناك من يسافر على قدميه! وإن الداءَ أكثرُ ما تراهُ يكون من الطعام أو الشراب أما القرى فهي أسوأ حالاً من المدن وقتها! .. الكهرباء معدومة في معظمها! .. والتعليم محدود! .. والفرحة بهضول الغنم من المرعى للحصول على بعض الحليب! .. الغذاء شحيح .. وبدون تاريخ لا في المدن ولا في القرى .. ويجدون (السراوة ) في التمر فيمسحون ويأكلون! .. الجوع كافر! .. وكانت البادية سائدة وحالتها أسوأ من المدن والقرى فمقومات الحياة هزيلة قليلة .. والجفاف مخيف .. ومكابدة الحلال مضنية ! ويقوم بالرعي الشباب والبنات! وهم أُميّون لا يعرفون المدارس، والخيام تقلعها الرياح إذا هبّت ! وتخرقها الأمطار إذا صبّت .. والتعليم معدوم .. والتحديات والمخاطر بلا حدود. ثم حصل التطور الحضاري بالتدريج .. وتمّ توطين البادية .. وتنمية المدن والقرى .. حتى إن شاعراً قال يفتخر : ياحمود لا نشدو عنا قلْ له ترانا بتنوره ترى البحر قبلة عنا بديار من تلعب الكوره وقل له ترانا تمدنا كلّ يولع بدافوره ثم انطلق التطور الحضاري انطلاقة الصاروخ، وصرنا نسابق الزمن، ونتفوّق على مدن كانت في الثريا وكنا في الثرى .. وفاض الخير .. وامتدت مساعدات المملكة إلى أنحاء الأرض .. وتوافد الملايين للعمل عندنا بعد أن كان أجدادنا يهاجرون للحصول على لقمة العيش فقط! ويقولون : (الهند هندك لا قَلّ ماعندك والشام شامك لا مِنْ الزمن ضامك)!! أما قبل مائة عام - وهي مدة قصيرة جداً في عمر الأمم - فالحال أسوأ بكثير .. الجوع فِراش والخوف لِحاف! في عزلة رهيبة عن العالم! وأسوار تحيط بالسكان كالسجون! والغذاء شبه معدوم فضلاً عن أي مظاهر للحضارة! أما الطب فهو شبه معدوم! ليس هناك غير (الكي) والدجل وبعض الأعشاب! و(الكلّاب) الذي تُخلع به الأسنان بلا تخدير! .. (والكلّاب) هذا يشبه (الزرادية)! .. وهناك مختصون فيه يخلعون أسنان المريض بلا رحمة! رغم وجود الخرّاج ومافيه من شدة الالتهاب! وكان في إحدى القرى رجل مختص بقلع الأسنان بالكلّاب مقابل قروش! .. ولكنه اعتزل لسبب وجيه! فقد حضر له ثلاثة من البدو ومعهم رجل طويل نشيط يصيح من ألم الأسنان ! .. أمسك به الرِّجال وأدخل الأخ (الكلّاب) في فمه الملتهب ولم يكد يهزه حتى قفز المريض من شدة الألم وصفع صاحب الكلّاب صفعةً ألقته على ظهره وساوت وجهه ! فاعتزل مريضاً يعالج نفسه! .. وبعد أن شُفي بسنة حنّ لعمله رغبة في الفلوس القليلة! ولكنه - هذه المرة- ابتكر طريقة عجيبة للحماية! وضع غرفة فيها فتحة لا تتسع إلّا لرأس الإنسان ! فالذي يريد قلع ضرسه عليه أن يجلس خارج الغرفة ويدخل رأسه فقط من الفتحة وعندها يقلع ضرسه بالكلاب بعنف! وليصرخ كما يشاء فهو آمن من أي صفعة!! أما التطعيم فمعدوم ! وشلل الأطفال منتشر .. والجدري يفتك .. وكذلك أخوه الكرية (السُّلّ) وغيره من الأمراض بما فيها الجَرَب والجُذَام ! ولدغ العقارب والحيّات ماله دواء غير تسهير المريض أو السفر إلى الأحساء التي كان فيها بعض علاج، يقول الشاعر : السيل يا سدرة الغرمول يسقيكْ من مزنةٍ هلت الما عقربيّهْ كم ليلةٍ جيت ساري في حراويك عجلٍ واخاف القمر يظهرعليّه نطّيت انا الداب وانيابه مشاويك والله وقاني من اسباب المنيّه يا رِجْل لو هو مصيبك وين اداويك ودواك يمّ الحساء صعبٍ عليّه أما الآن فلدينا - والحمد لله - أرقى المستشفيات وأمهر الأطباء وأحدث الأدوية ، فضلاً عن تعميم التطعيم، وانتشار الوعي، وكثرة الأندية الرياضية ووفرة الحدائق في المنازل والشوارع والمدن والقرى ، وإن كنا لا نزال في حاجة إلي مزيد من التوعية والبعد عن الإفراط في الأكل والإقبال على (الوجبات الجاهزة والمشروبات الغازية) التي أصابت كثيرين بالسمنة والضغط والكوليسترول . إن الله عز وجل يقول (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) ولابن الرومي : (وإن الداءَ أكثرُ ما تراهُ يكون من الطعام أو الشراب) واقعنا اليوم هو عجب عجاب ولا مبالغة في القول ! .. فقد نهضنا نهضة كبرى لم تشهدها الأمم الأخرى بنفس المدة الزمنية أبداً .. فسبعون أو مائة عام تُعتبر ومضة في تواريخ الأمم ! ولكن خلالها تقدّمت المملكة إلى مصافّ الدول المتقدمة جداً - وتفوّقت في الأمن والاستقرار- وعمّ التعليم والكهرباء والماء والطُرُق التي لم أشهد لها مثيلاً في كل البلدان التي زرتها .. والوفرة الغذائية أصابتنا بالسمنة والإسراف لكثرة النعم وتواجد كل الأصناف في كل المواسم ! وكثرت الأسفار والابتعاث والخدم والسيارات الفارهة والمنازل الجميلة التي يندر وجودها بهذة الكثرة في البلدان الأخرى ! .. وتقدّمت (الحكومة الالكترونية) وأصبح المواطن يُنجز أموره وهو في بيته! .. ويشتري مايريد وهو في بيته! .. وعنده ألف قناة تلفزيونية! وجوالات فيها العالم كله ! .. ونظافة المدن والقرى عندنا يضرب بها المثل .. أما كثرة الأسواق المكيّفة فحدث ولا حرج! .. لقد تطورنا بشكل مذهل! .. ولكن هذا لا يبرر الترف والهدر والإسراف والاتكالية على الدولة والاعتماد على الأجانب ! .. بل يجب القصد في الفقر والغنى .. والبعد عن التبذير والاستهانة بالنعمة .. فإن أدواء الترف والتبذير والكسل والتواكل والخمول والاعتماد على الغير وخيمة العواقب تُصيب الفرد والمجتمع بالترهُّل وتدنِّي الإنتاجية وضعف الروح وعدم القدرة على التكيف مع مستجدات الأمور .. ينبغي احترام الحرف اليدوية ، وشكر الله - عز وجل - على نعمة الأمن والرخاء ، فبالشكر تدوم النعم : إذا كنت في نعمة فارعها فإنَّ المعاصي تزيل النَّعَم فإن تعط نفسك آمالها فعند مناها يحلُّ الندم وحتى لا ينطبق على المسرفين غير الشاكرين قول حميدان الشويعر : النعمه حمر جياشه ما يملكها كود وثَقه والجوع خديديم اجواد ودك ياطا كل زنقه ليت ان الفقر يشاورني كان أدهك به كل فسقه كان ادهك به عير ينكر عقب الصمعا صلف نهقه الزير والقربة وسيلة تبريد المياة السقّا يحمل المياه الي المنازل (الكي) وسيلة التطبب الوحيدة