كان من بين أصدقاء الكولونيل الانجليزي ديكسون أثناء إقامته في الكويت سعود بن عقاب. وهو بدوي من قبيلة عنزة كان يعمل حارسا في شركة النفط. وكان سعود بن عقاب هذا رجلا صالحا في حوالي الخامسة والثلاثين. تعرف عليه من خلال فخامة الشيخ أحمد الصباح , وكان الموقع الذي كلف بحراسته هو محطة الضخ على بعد ميل جنوب الشعيبة على الساحل , وفي أحد الأيام كان الحراس تحت الإشراف المباشر لديكسون وعند ما قام هو وزوجته الملقبة بأم سعود بزيارة إلى نقطة الحراسة بمحطة الضخ . وهو ما اعتادا القيام به من وقت لآخر , تناولوا القهوة مع سعود كالعادة والذي كان قد رفض تماما أن يكون لقاؤهم معه في كشك الحراسة وأصر أن يكون ذلك في خيمته الخاصة التي نصبها على مقربة من نقطة حراسته , ليقيم بها هو وأسرته . وفي يوم من أيام الربيع سنة 1939م قاما بزيارة أخرى مماثلة فوجدوا صديقهم سعود بن عقاب يشكو من صداع رهيب يعقبه تدنٍ سريع في قوة الإبصار . ولما فشلت أقراص الأسبرين والمكمدات الساخنة .. الخ في علاجه . يقول ديكسون ضمن كتابه ( الكويت وجاراتها ) : أحضرناه أنا وزوجتي إلى الكويت في سيارتنا وأدخلناه مستشفى الإرسالية وبذل د. مايلري كل ما في وسعه , وأحاط سعود بكل رعايته , ولكن دون جدوى , وبعد عشرة أيام , أبلغني الدكتور أنه على يقين من أن مشكلة سعود هي ورم خبيث بالمخ . واستمرت حالة سعود في التدهور يوما بعد آخر إلى أن أضطر الدكتور مايلري إلى وضعه تحت الملاحظة طوال الوقت تقريبا , لتخفيف الآلام التي لا تحتمل التي يعاني منها , وذات صباح توجهت إلى المستشفى , فعلمت أن الدكتور مايلري أصدر تعليماته لأقارب سعود بأن يعودوا به إلى منزله في ذلك الصباح , لأنه لم يتبقَ أمامه سوى بضع ساعات ويسلم الروح , وأنه من الأفضل أن يموت بين أحبابه , وفي كنف أسرته , وهو إجراء إنساني درجت عليه السلطات المسؤولة بالمستشفى , ويقدره السكان العرب في الكويت كل التقدير . وأكد لي د. مايلري أن حالة سعود ميئوس منها تماما وأنه سيسلم الروح لا محالة خلال ساعة أو ساعتين , وعدت إلى منزلي وأبلغت هذا النبأ المؤسف لزوجتي ولفخامة الشيخ أحمد , ولم نكن نعرف إلى أين سيتوجه أقارب سعود به. والمرء يتعلم في الكويت كيف يواجه هذه المآسي المتعلقة بالموت بلا انفعال , فكل شيء من عند الله , والتعليق الوحيد الذي تسمعه من الجميع هو : ألله أعطى .. والله أخذ , ومن الخطأ أن نبكي أو ننتحب من أجل شخص رأى الله, بحكمته أن يأخذه إلى جواره . ومرت خمسة عشر يوما, وخرجنا أنا وزوجتي في جولة على الجياد بين خيام البدو وأكواخهم المشيدة من البوص في الشامية , وهي منطقة خارج المدينة يحافظ الجميع عليها جيدا كموقع لضرب المخيمات التي ينزل بها بدو الصحراء في الصيف , وكنا كثيرا ما نقوم بمثل هذه الجولات , كما كان العديد من الأصدقاء بين هؤلاء القوم . وفجأة سمعت صوتا يناديني باسمي : يا ابا سعود .. يا أبا سعود ! وبدا كأن الصوت يأتي من الصريفة ( كوخ الحصير ) وتوجهنا اليها , فرأينا أمامنا امرأة زنجية بشوشة على قدر من الوسامة والجمال تجلس وهي تغزل بعض خيوط الصوف , وقلت من يناديني باسمي ؟ أواه : إنه صديقك سعود بن عقاب, وأنا أقوم بعلاجه انه بالداخل الآن يتماثل للشفاء ورآك من بعد على ظهر جوادك . أدخل لتراه . سلمنا جيادنا ودخلنا الكوخ أنا وزوجتي وقد أخذ منا العجب كل مأخذ, ورأينا الرجل الذي تصورنا أنه مات ودفن قبل أسبوعين وجلسنا إلى جانبه واستمعنا لقصته . قال : أرسلني الطبيب الانجليزي إلى منزلي لأموت بين أهلي . ولكن بنت الحلال هذه أدركت حقيقة المرض بمجرد أن رفعت عينيها علي , وعلى الفور أزالت كل شعر رأسي وكوتني على شكل صليب عميق يمتد من الأذن إلى الأذن ومن الجبهة إلى مؤخرة العنق لتسمح للأرواح الشريرة بالخروج وعند ما صحوت وجدت هذه الزنجية تقوم برعايتي وتتلو علي القرآن وعند ما أخبرت صديقي الدكتور مايلر بالقصة ابتسم ابتسامة لا تخلو من تجهم واعتقد أنه لم يسعد بها كثيرا . هارولد ديكسون مع ابنيه زهرة وسعود