بين العام 1769 والعام 1790 تولى الرسام الانكليزي سير جوشوا رينولدز، رئاسة الأكاديمية الفنية الملكية في لندن. وكان من ضمن نظم الأكاديمية أن يقام حفل تخرج سنوي، تمنح فيه الشهادات للطلاب المتخرجين، وخلاله يقوم الرئيس بإلقاء ما يشبه محاضرة في أحوال الفن وتاريخه، تضع الطلاب المتفوقين والجمهور المشارك على تماس مباشر مع القضايا الفنية، وعلاقة تاريخ الفن بحاضره. ولقد تولى رينولدز إلقاء تلك الحاضرات عند نهاية كل عام، حتى اجتمع منها عدد بلغ أكثر من خمسة عشر محاضرة، نشر القليل منها أول الأمر خلال الفترة 1772 - 1779، في شكل متفرق، ثم نشرت مجموعة في العام 1823، تحت عنوان «خطابات»، وإن كان الكتاب قد ترجم الى لغات عدة في أزمنة لاحقة تحت عنوان أكثر وضوحاً هو «خطابات حول الرسم». وفي شكل عام، تعكس المحاضرات آراء وأفكار السير جوشوا رينولدز حول الفن، وهي من الناحية الأسلوبية جاءت على شكل نصائح مفصلة يوجهها الرسام - الرئيس، الى الطلاب، ومن خلالهم الى غيرهم من الفنانين الشبان، الذين إذ كانوا يشقون طريقهم في عالم الفن، كان رينولدز يود أن يؤكد لهم أن الموهبة، مهما كبرت، لا تكفي وحدها لصنع الفنان... فالمعرفة بتاريخ الفن وبمختلف أساليبه وحقبه، وبقضايا ارتباط الفن بالمجتمع، ناهيك بارتباط الفن، نفسياً وروحياً، بالفنان، كانت - بالنسبة إليه - أموراً لا غنى عنها لكي يقترب الفنان، الموهوب بخاصة، من الكمال. ومن هنا جاءت دروس رينولدز في هذه المحاضرات، نوعاً من الحث على الإمعان في الدراسة. كما جاءت أولاها مفسرة لضرورات الدراسة الأكاديمية وفوائدها... تماماً كما جاءت لتلقي الأضواء كاشفة على المناهج التي لا بد من اتباعها في رسم تلك الدراسة... فالأمور بالنسبة الى رينولدز، لا يمكن أن تكون تلقائية عشوائية، حتى وإن كان يمكن للفن نفسه، لاحقاً فقط، أن يعطي الحق بأن يكون تلقائياً وعشوائياً... وأثر ذلك تأتي - في سياق حديث رينولدز - مسائل مثل دراسة الفن التصويري، أشكالاً وخطوطاً وألواناً ومناظير.. علماً بأن رينولدز لم يفته أن يفرق في المحاضرات الأولى بين ما كان يسميه «الأسلوب الأسمى» و «الأساليب الدنيا»، عابراً الى الحديث عن العبقرية في الرسم، في مقابل المهارة الحرفية، مركزاً على علاقة تلك العبقرية بمسائل مثل الذوق والقواعد. غير أن بحث هذه الأمور لا يعني، بكل تأكيد، أن السير رينولدز بقي يتحدث في العموميات. إذ إننا بعد أن نقرأ لديه حول هذه المسائل التمهيدية المهمة، نجدنا ننتقل تالياً الى محاضرة بأسرها، كرسها الكاتب - الفنان، لسلفه العظيم مايكل انجلو. والحقيقة أن رينولدز، وتحديداً في معرض حديثه عن عبقرية مايكل انجلو ينتهز الفرصة ليعود الى مسألة علاقة التدريس بالفنانين الشبان إذ «لأن المرء لا يطلع من بطن أمه، مايكل انجلو جديداً، عليه أول الأمر أن يستوعب كل الدروس الأكاديمية مهما كانت كلاسيكية وبطيئة ومملة، قبل أن يستقل لاحقاً بذاته الفنية ويخوض التجربة فردية كما يشاء». بل إن رينولدز يقول هنا إن الفنان لا يمكن اعتباره فناناً، إن لم يستقل بنفسه لاحقاً عن كل أكاديمية ليخلق فنه الفردي. وكأن لسان حال الكاتب هنا يدعو الى ما كان يدعو إليه أهل الشعر العربي حين كانوا ينصحون الشاعر الجديد، بأن يحفظ في شبابه عشرة آلاف بيت. ثم ما أن يحفظها تماماً، حتى يكون عليه أن ينساها تماماً، ثم يخوض لعبته الشعرية الخاصة. وبالنسبة الى رينولدز واضح، مثلاً، أن ألفة الفنان الشاب مع أعمال مايكل انجلو، ومع كل الأعمال الكلاسيكية، هي التي تعطيه عادة التعاطي مع الفن وكرامته فاتحة أمامه الدرب واسعة لفهم الطبيعة في شكل أفضل. ولما كانت الطبيعة هي المنبع الأبدي لكل كمال، من الواضح أن إصابة الفنان الشاب ب «عدوى» محاكاة الأجزاء «الأكثر نبلاً من هذه الطبيعة» هي السبيل الأوفى للوصول الى روعة الفن، شرط أن تعتبر الطبيعة في هذا الإطار وسيلة للفن لا غاية له... على اعتبار أن الغاية المثلى للفن، انما هي التماس مع المخيلة والحساسية. وإذا كان رينولدز يمعن في الحديث عن «الأسلوب الأسمى» في الفن، فإنه في المحاضرات اللاحقة، يوضح أن هذا الأسلوب انما يؤلف بين ما هو مثال أعلى في الفن، وبين لعبة التوليفات المتناسقة. وكمثال على هذا، يتحدث رينولدز عن مدرسة فلورنسا في القرن السادس عشر. أما في المحاضرة الخامسة، فإنه يقيم التقابل بين رافائيل ومايكل انجلو، ليقول لنا انه إذا كان رافائيل يمتلك العدد الأكبر من المزايا الرفيعة في الفن، فإن مايكل انجلو يملك المزية الأسمى: موهبة الوصول الى أعلى درجات السمو. ويبقى رينولدز هنا في حديثه المستفيض عن فنون النهضة الإيطالية ليوضح لطلابه الشبان انه يفضل مدرسة بولونيا في القرن السابع عشر. أما مدرسة البندقية، فإنها - باستثناء تيتيان - لا تعني له شيئاً كثيراً، ذلك أن فنونها التصويرية تبدو إليه استعراضية، بل مسرحية الى حد كبير، ومثاله على هذا أعمال فيرونيزي وتنتوريتو. وإذ يتقدم رينولدز تاريخياً يقول لنا إن عيب بوسان الأساس يكمن في أن محاكاته للمنحوتات العتيقة في رسمه، جعل أسلوبه جافاً وعقلياً بارداً. أما بالنسبة الى روبنز فإن «الأخطاء العديدة في لوحاته، أساءت الى محاسن هذه اللوحات، إذ أفسدت ما لديه من سهولة في الابتكار وغنى في التركيب، وروعة في التلوين». ومن روبنز ينتقل سير جوشوا رينولدز الى الفنون الهولندية ليقول انها متميزة ولكن في مجالها الخاص، باعتبارها تنتمي الى الأساليب الدنيا، إذ يطغى عليها الحدث الذي يمكن روايته، وتكاد تحصر همها في رسم المشاهد المنزلية، والتعبير عن العادات وضروب السلوك والأخلاق... الآنية. ان تاريخ الفن، إذ يفرد مكانة لا بأس بها لمحاضرات سير جوشوا رينولدز هذه، لا يفوته في الوقت نفسه أن يؤكد أبعادها الأكاديمية النيوكلاسيكية، لافتاً الى انها في الوقت نفسه، تبدو معدلة بفعل بروز قسط من التجريبية الانكليزية، خصوصاً أن من يلقي هذه المحاضرات، ليس أستاذاً أكاديمياً همّه التنظير وحسب، بل هو فنان يعتبر من أكبر المبدعين المجددين في زمنه... ما يضفي على كل ما يقول طابع التجربة الشخصية. بل لعل الأحكام الحادة - أحياناً - والقاطعة في أحيان أخرى، التي يطلقها رينولدز، هنا أو هناك في محاضراته، تأتي من كونه فناناً ذا ذوق ومزاج خاصين، أكثر كثيراً من كونه رئيس أكاديمية من مهامه أن يملأ خطاباته بالتنظير وبالدروس الأكاديمية الجافة. ومن هنا ما لاحظه الباحثون من أن مواقف وتعبيرات رينولدز في هذه المحاضرات، على رغم جذورها الأكاديمية، تبدو أقل صرامة وإثارة للملل بكثير من دروس ومحاضرات، في تاريخ الفن، ألقيت في أكاديميات مشابهة، أو كتبت في ظروف مشابهة. علماً بأن محاضرات رينولدز لا تزال تطبع وتقرأ على نطاق واسع منذ ذلك الحين، وتعتبر، ليس مرجعاً أكاديمياً وحسب، بل مرجعاً فنياً تجريبياً خاصاً، على علاقة بفن رينولدز نفسه. والسير جوشوا رينولدز (1723 - 1792)، يعتبر من الناحية التاريخية، الممثل الرئيسي للمدرسة الفنية الانكليزية في القرن الثامن عشر، حتى وإن كان قد كرس الجزء الأكبر من فنه، طوال حياته تقريباً، لرسم البورتريهات، هو الذي رسمت ريشته كل الشخصيات المهمة التي عاصرته في بلده. ولعل هذا ما جعله من أهم الذين اسبغوا على الفن الانكليزي هيبة اجتماعية لا شك فيها ما مكنه من أن يساهم في تأسيس الأكاديمية الملكية ويعيّن أول رئيس لها. ومنحه الملك جورج الثالث لقب سير. ولقد آثر عن رينولدز تفضيله للأساليب الكلاسيكية مع نزوع الى الخيال جعل كلاسيكيته نيوكلاسيكية، كما انه اشتهر برسم الأطفال بخاصة. [email protected]