«إن أقسى عقاب لأهل الجحيم حرمانهم فهم معنى الجمال» طاغور. إن المجتمعات البعيدة عن الفن قريبة من السطح، ويتسم نسبة كبيرة من أفرادها بالبلادة. فالفن والإبداع هو تذوق لجمال الحياة، يتسع بالنظر، ويتفوق بالرؤية، ويجعل للحياة آفاقاً أخرى من المتعة واللذة لا تحضر إلا في الفن، وحتى نعرف رقي المجتمعات وازدهارها فإن الفن يلعب دوراً مهماً في تحديد ذلك. وبما أن الفن التشكيلي فن حيوي ومتجدد على رغم تأصل هذا الفن في البشرية الأولى وحتى الآن، إلا أن صوره لا تتوقف عن التخلق بأشكال وأبعاد مدهشة، وهذا يظهر جلياً في مدارسه وتوجهاته. إلا أن التجريد يبقى هو المشتهى والمثير والمدهش، إذ إنه يجنح للجنون والأسئلة. أكثر ما يبهرني في الفن بساطة الفكرة وإخراجها، وكلما كانت الفكرة في العمل الفني بسيطة ومثيرة للتأويل والجدل والتفسير وكثرة الأسئلة كانت أعظم. في معرض «وكز» الذي أقيم في جدة أخيراً، الذي شارك فيه فنانون تشكيليون عدة وكانت أعمالهم تصنف ضمن الفن الحديث، فن الفكرة (المفاهيمي) تحديداً، شاهدت أعمالاً رائعة ومثيرة جداً. ومن تلك الأعمال التي استوقفتني عمل ماجد الثبيتي «الكاسيت»، الذي هو شريطيّ كاسيت بجوار بعضهما، الأول ممتلئ والآخر مندلق بالكامل على الأرض! طبعاً عندما يرى المتلقي العمل في البداية يبتسم لظرف العمل، لكنه يصاب بصدمة بصرية فنية في الوقت ذاته، وهذا أمر صحي للمتلقي. بخاصة في هذا النوع من الفن. وإذا سلّمنا بأن الفن المتعلق بالفكرة، يهتم بالفكرة أكثر من العمل نفسه، فإن هذا يتحقق في هذا العمل المدهش الذي يجعل الفكر في حال من العصف أثناء مشاهدة العمل، وبعد مشاهدته. كثيرة هي الإسقاطات على هذين الشريطين، كثيرة لدرجة أنك لن تبالغ أن هذا العمل يحتاج إلى دراسة تحليلية فنية/ نفسية/ اجتماعية! العمل له دلالات رمزية إنسانية، بمجرد أن يلقي الإنسان نظرته الأولى، العمل صورة لعقليتين، لشخصيتين، لتيارين، لذائقتين، لأمرين مختلفين ومتجاورين أيضاً! الكاسيت الممتلئ هو الانكفاء على الذات، العزلة، تدوير الأفكار، مراجعة النفس، وطالما أنه بعيد عن العطب فهو قابل للامتلاء بكل شيء، ليس الامتلاء، بل التراكم أيضاً بطريقة أو بأخرى، وبالتالي يوحي إلى ثقله ومدى العمق، وفوق هذا كله شفاف، وهنا قيمة أخرى. في المقابل كاسيت مندلق على الأرض، الجرم فارغ تماماً ولن تشفع له شفافيته، الاندلاق هنا كوّن بشاعة على الأرض، ترك صورة تلوث البصر، لا تملك وقتها إلا صرف النظر والرثاء لهذه الحال البائسة والمؤذية والميئوس منها أيضاً، ولعل الإحباط هو الانعكاس اللازم لهذه الصورة. يتحدث ماجد عن شريطه ممتلئ الدائرتين إلى الحد الأقصى، وبداخله كل شيء يخص العالم فيقول: «لكل حياة ولحظة، انحبست داخل هذا الصندوق، وعاشت للأبد، تراوح بين دائرتين، جيئة وذهاباً.. هناك واقع سحري على ذاكرة الإنسان، وعلى خلود زمنه المتقطع. الكاسيت بمساهماته الكبرى والطويلة للإنسان المعاصر للعقل والذائقة، استطاع أن يدفع بعجلة المعرفة والمتعة إلى الأمام وفي كل الاتجاهات أيضاً. بشكله التقليدي كان له تأثير في عوالم مختلفة وبأشكال لا نهائية. صرير البداية. الصمت الذي يسبق انبعاث الصوت. جزء باطن من تاريخ مؤثر في حياة من يترقب، ومن ينتظر أول كلمة، أول نغمة، وأول حياة. دئراتا هذا العمل ممتلئتان تماماً من دون أدنى قدرة على الحركة، تمثلان مجد الاكتمال، وذروة اللحظة الفنية والفلسفية. كذلك الامتلاء الكامل إلى درجة اللاستطاعة» يتوقف ماجد هنا ولا يعلق على شريطه الآخر، إنه يترك للمتلقي الجانب التعبيري، أن يفسره بالطريقة التي يفضلها ، وهنا تكمن عظمة الفن.