تدور أحداث «مستوطنة العقاب» لكافكا، في جزيرة استوائية غائمة، كما أن المؤلف لا يعطي شخصياته الرئيسة أيَّ أسماء. ومن بين هذه الشخصيات شخصية المسافر، ذلك الغريب الذي كان يمر بالمكان صدفة فيصبح -بسبب ما شهده بأم عينيه- شاهداً على الأحداث تروى من وجهة نظره، ويكون بالتالي أشبه بلسان حال القارئ نفسه. وهذا المسافر يحدث له عند بداية هذه القصة أن يشهد عملية إعدامٍ الغريبُ فيها أن آلة التنفيذ عبارة عن جهاز شديد الغرابة والتعقيد يعاقِب المدان في شكل فريد من نوعه. طبعاً لا يفهم المسافر هذا كله من تلقائه، بل كان إذا استبد به الفضول إزاء ما يشاهد، يصغي إلى أحد الضباط ليشرح له الأمر. يتبين لمسافرنا منذ البداية، أن الضابط مولع بهذه الآلة، ضليع في تفاصيل تشغيلها، مناصر لها من الناحية التقنية، لكنه كذلك مؤيد لها من الناحية المعنوية والأخلاقية، خصوصاً أنها من اختراع القائد السابق، الذي بذل جهداً لصنعها. وخلال الحديث الذي يدور حول هذه الآلة وفوائدها وأسلوب عملها بين الضابط والمسافر، يلاحَظ أن المحكوم نفسه يصغي إلى الحديث وهو مقيد بيد واحد من الحراس. لكنه لا يبدي أيَّ رد فعل إنساني، وكأن الأمر لا يخصه: فلا تبدو على وجهه سوى سمات البله والبلادة... ويبدو واضحاً أن أحداً لم يكلف نفسه جَهْدَ إعلامه مسبقاً بأنه محكوم بالإعدام، وبأن التنفيذ سيكون بتلك الآلة الغريبة، بل سرعان ما ندرك أن أحداً لم يحاكَم في حضوره، وأن أحداً لم يطرح عليه ولو سؤالاًَ، أو حتى استمع إليه. كل ما في الأمر أن الضابط الذي كان حاضراً هو الذي أعلن الحكم، وهذا النوع من الحكم يكون عادة من دون استئناف. وهنا، وإذ نعرف هذا من طريق الضابط الثرثار، نلاحظ كيف أنه لا يتوقف أمام المسافر عن امتداح هذا النوع من العدالة، في الوقت الذي يسهب في الحديث عن طريقة عمل الآلة: فالمحكوم سوف يُربط عارياً الى ما يشبه السرير الذي يطوى على نحو معين، فينغلق عليه غطاء مزود بأبر زجاجية حادة تكون مهمتها أن تحفر فوق جسد المحكوم العاري عبارة تقول «كرّم رئيسك». ويحدث -كما يخبرنا الضابط من طريق إخبار المسافر- أن المحكوم وهو في ذلك الوضع يبدأ، بعد مرور الساعات الست الأولى على تنفيذ الحكم، بقراءة العبارة وتفسيرها، إذ صارت جراحاً تغوص في جلده... غير أنه لن يفسر أو يقرأ بحزن أو ألم، بل وهو يشعر بأقصى درجات اللذة. ويموت المحكوم عادة بعد انقضاء 12 ساعة على بداية تنفيذ الحكم، لكنه لا يموت إلا وقد تحرر تماماً. وإذ يصل الضابط في شرحه إلى هنا، نفهم أنه الآن يعتمد على المسافر كي يُقنع المحكوم، الذي كانت البلاهة لا تزال مرسومة على وجهه، بصواب هذا الأسلوب وبفوائد الآلة وعدالتها. ولكن بما أن المسافر يسارع إلى التعبير عن عدم موافقته، لا يكون أمام الضابط إلا أن يطلق سراح المحكوم، ثم يلتفت إلى الآلة ويبدأ بتعديل الجملة التي تحفرها فوق الجلد، بحيث تصبح «كن عادلاً»، وما إن ينتهي من إحداث ذلك التعديل، حتى يتعرى ويكسر سيفه ثم يتمدد داخل الآلة ويشغّلها. وبعد حين، وبعد أن تكون الآلة قد اشتغلت أمام ناظرَيْ المسافر كما ينبغي لها أن تشتغل، تتوقف عن عملها البطيء بشكل مباغت، وبدل أن تحفر العبارة على جسد الضابط بتمهل، تخرق جسده تماماً، بحيث يموت أمام أنظار الحاضرين من دون أن يكون فِعْلُ التحرر قد طاوله. أما المسافر، فإنه يصطحب المحكوم السابق والحارس ويعود الى المدينة، وهناك في مشرب الشاي، يبدأ بتأمل قبر القائد السابق، إذ إن القبر موجود تحت إحدى الطاولات في المشرب، ثم يشير تجاه رفيقيه إشارة تهديد واضحٌ أن الغاية منها ردعهما عن اللحاق به، وينسحب ليصل إلى مركبه من دون الآخرين. تنوعت التفسيرات في شأن هذه القصة، وتنوع الحكم عليها من قبل النقاد والدارسين، غير أن كثراً من هؤلاء لم يترددوا أبداً في اعتبارها واحدة من أهم أعمال كافكا، بل رأى بعضهم أنها تلخص كل «الأفكار» التي ملأت دائماً تلك الأعمال، فهنا نجدنا أمام موضوعة الوحدة والألم والإدانة والعبث، غير أنه من الواضح أن ما من واحدة من هذه الموضوعات يمكنها أن تشكل وحدها مفتاحاً أساسياً كافياً لفهم العمل كلاًّ، إلى درجة أن نقاداً كثراً تساءلوا: هل ثمة في الاصل تفسيرٌ مطلق ونهائي ل «مستوطنة العقاب»؟ لكنهم لا يجدون جواباً قاطعاً لسؤالهم هذا. ومن هنا اكتفوا بالقول إن فرانز كافكا (1883–1924)، وكما في أعماله الرئيسة، اكتفى هنا، وبدلاً من أن يتنطح لإيصال رسالة ما، بأن يطرح الأسئلة، أو على الأقل -وفق تعبير واحد من هؤلاء النقاد- بأن يخلق مناخاً يجبرنا بالضرورة على أن نطرح على أنفسنا جملة أسئلة أساسية تتعلق بحياتنا وكينونتنا. في رواية «كافكا عند الشاطئ» يتحدث الكاتب الياباني هاروكي موراكامي عن رواية «مستوطنة العقاب» لفرانز كافكا على لسان الراوي، ويرى أن الآلة في رواية كافكا وسيلة لتفسير نمط الحياة الذي نعيشه نحن البشر، ويسجل اللحظة التي يقرر فيها الإنسان تجاوز الماضي ببناء المستقبل. كتب كافكا القصة عندما كان شاباً في السادسة والثلاثين ويحس بأن نهايته تقترب، بسبب إصابته المبكرة بالسل الذي قضى عليه شاباً، وهي من أعماله القليلة التي طُبعت ونُشرت خلال حياته.