لا أهدف من هذا المقال أنْ أثقل كاهل الطلاب بمواد دراسية جديدة، كما لا أهدف منه أنْ أزيد نصيب المعلمين من الحصص، فهم في منأى عن ذلك، وإنمَّا أسعى إلى تنبيه المعلمين والآباء إلى ضرورة الاعتناء بتنمية الحس النقدي لدى أبنائهم؛ مخافةَ أن يخرج إلينا جيلٌ أجوف، تنقصه ثقافة نقد الأشياء والتصرفات وإصدار الحكم تجاهها؛ لأنَّ الأبناء عندما يفقدون تلك الأدوات؛ فإن أبسط حقوقهم قد تضيع، وحينئذ لا يعرفون الدِّفاع عنها، ورفضها عندما تتعارض مع قناعاتهم وتطلعاتهم. إنَّني أستغرب أشد الاستغراب! عندما أسمع مقولة بعض الآباء مردداً وبفخر: «إنَّ أبناءه مطيعون له في كل شيء»، وبلا شك فهذا فِعل حَسن، ومطلب شرعي، لكنّ المفارقة والمغالطة تكمن في أنَّنا بهذه الأفعال والتصرفات نعودهم على تهميش آرائهم، وتقزيم أفكارهم، وهذا الفعل من الآباء مصيبة في رأيي، لأنَّه يجعل الابن يواجه الحياة وهو آلة صمَّاء، تنفذ التعليمات، ولا تعرف عنها شيئًا، وبالتالي يخرج لنا من َرحِم هذه الثقافة العقيمة جيل مبرمج، لا يتمتع بالحس النَّقدي، ولا يتخذ القرارات المناسبة والمهمة في حياته. الأمثلة على ما ذكرناه، آنفاً كثيرة ومتعددة، ولعلنا نأخذ على ذلك مثالاً تتكرر عَوارضُهُ معنا كل عام، فالآباء يخططون لأبنائهم عندما يتخرجون من الثانوية من دون مشاركة من الابن، ويرسمون طريقهم تجاه مستقبلهم، ويختارون لهم الكلية التي يرون أنَّها تناسبهم، والجامعة التي توافق رغباتهم، ومكانها، وربما اختاروا له التخصص، وبسبب ذلك يقف الابن عاجزًا عن أن ينقد اختيارات والده، وبالتالي يساير تطلعاته على مضض، وبعد أن يمضي وقتًا من عمره في كلية لا يرغبها، أو في قسم لا يستهويه، يحدث ما كان متوقعًا، فإمَّا أنْ يترك الجامعة، ويصاب بحال نفسية جرَّاء ضياع الفرصة عليه من الالتحاق بما يرغب، أو أنَّ أفضلهم حالاً يحاول أن يصلح ما أفسده والده، بأنْ ينتقل إلى كلية أخرى، ويتجاوز محنة الوقت الذي انصرم من عمره، بسبب غياب وعي الآباء بتكلم الثقافة. إنَّ الجيل الحالي، وكذلك المقبل، يحتِّم علينا أن نطيل التفكير، ونكرر النظر في تعاملاتنا مع أبنائنا، كما يوجب علينا أنْ نستنهض الهمم في إعادة الثقة إلى أنفسهم، وفي إعطائهم دفة الاختيار، والتخطيط للمستقبل، من دون أنْ نفرض عليهم ما لا يرغبونه. إنَّ التربية النَّقدية بهذا التصور تعد أداة من أدوات المستقبل، ومركز ثقل مهماً في مسيرة الأبناء، ومن هذا المنطلق، ينبغي علينا أنَّ نُعوِّد أبناءنا على هذه الأدوات، لأنَّنا نتفق جميعًا بأنَّ مجتمعاتنا ليست مجتمعات زاهية مثالية، كما نُصوِّرها لأبنائنا، بل هي مجتمعات يكتنفها كثير من القصور والنَّقص، اللذين يحتمان علينا أنَّ نُفعِّل هذه الأدوات حتى يكونوا مستعدين للحكم على ما في مجتمعهم من صواب أو خطأ. إنَّنا بهذا التصور نُخرج أبناءنا من دائرة التأثر إلى دائرة أكثر عمقًا وفهمًا، ألا وهي دائرة التأثير، بحيث نجعلهم يقولون كلمتهم تجاه ما يرونه من تصرفات سلبية، أو إيجابية في مجتمعهم، ونحن بهذا التصور أيضًا نريد جيلاً يحسن ثقافة الاعتراض الإيجابي، والنقد الهادف، والمواجهة والتمسك بالرأي الصحيح، والدفاع عن جملة آرائه، وفي المقابل أيضًا لا نرغب في جيل سلبي ينظر إلى الآخرين مكتوف الأيدي، منعقد اللسان، كما أننا لا نريد جيلاً لا يعرف إلا هزَّ الرؤوس، ولا يشارك في اتخاذ قرارات نفسه، ناهيك عن قرارات مجتمعه. كم هو جميل أنَّ نتخلى عن قناعاتنا السلبية وانعكاساتها، خصوصاً في ما يتعلق بتربية أبنائنا، ونهرول إلى قناعات أكثر إشراقًا ورقيًا، حتى نحصد ثمار هذا الفعل بجيل توَّاق إلى المعرفة، متمتع بدرجة عالية من الرقي النقدي. لا يظنُّ القارئ العزيز أنَّ صناعة مثل هذا الجيل شيء سهل، كما لا يظنُّ أيضًا أنَّها صناعة صعبة ومستحيلة، بل إنَّها وفي حقيقة الأمر، قد لا تتأتى إلا بمجهودات ثرية وغنية من الآباء ومن غيرهم من المشاركين في صناعة هذا الجيل. إنَّ ثمَّة أمورًا تدعونا إلى التفكير، وبجدية، في هذه الثقافة، لعلَّ من أهمها أنَّ العالم أصبح قرية واحدة، والحياة باتت متطورة ومتسارعة، فنحن اليوم نعيش في عصر شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»، وعليه فالمدخلات المعلوماتية تتجاذبنا من كل حدب وصوب، ناهيك عن اللوثة الإعلامية في عالم الفضائيات. وبناءً عليه، فإنَّ على المجتمع مسؤولية كبيرة، تتلخص في إعداد العدة، وتسليح هذا الجيل، والأجيال المتعاقبة، ليكونوا أكثر استعدادًا للتفريق بين ما ينفعهم وما يضرهم. وأيَّاً ما كان الأمر، فإنَّه ينبغي أنْ تتكاتف الجهود، وتتضافر الرؤى والتطلعات للوصول إلى آليات تطبيقية عملية، يمكن من خلالها تنمية التربية النقدية لدى أبنائنا، مع إدراك الجميع حجم الانعكاسات السلبية في غياب الثقافة النقدية، التي غشاها كثير من القصور والذبول والفتور والتهميش، فكان لزامًا علينا أنْ نقوم بخطوات جلية وواضحة وطموحة تجاه النهوض بهذه الثقافة، وأن نُكرِّس الجهود العملية التي من شأنها أن تنمي المفهوم النقدي لدى المجتمع بأكمله. فوزارة التربية والتعليم، مثلاً، قد تساعد في ذلك من خلال إقامة الدورات التدريبية لمعلميها حول المفهوم النقدي، ووسائل تنميته لدى الطلاب، وتكوين الخبرة الكافية لدى المعلمين لتوعية الطلاب بهذه الثقافة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يُطلب الثوبُ ممن جسمه عارٍ. كما أنَّ وزارة الثقافة والإعلام يمكن أنَّ تسهم في نشر هذه الثقافة، وذلك باستضافة المتخصصين في علم النفس، والتربية، والاجتماع، لإلقاء الضوء على وظيفة التربية النقدية في تشكيل الذات الناقدة لدى الطلاب. وبناءً على ما تقدم، فإنَّنا نكون بهذا العمل أسسنا أبناءنا لمواجهة التحديات والمواقف التي تعترضهم في المستقبل، وجهزنا الأدوات للتعامل مع المشكلات والعقبات، منتظرين أن نجني ثمرات هذا الجهد، ونفوز بجيل يقود الإبداع والطموح والتفاؤل، بحول الله وقوته. ماجستير علم اللغة التطبيقي معد ومقدم برنامج «نادي الكتاب» من إذاعة الرياض [email protected]