يعيش الشرق الأوسط حالاً من الغليان الشامل تكاد تكون غير مسبوقة: فمن حرب العراق الى أحداث فلسطين الى أعمال العنف والتفجير المتنقلة، الى رسالة الرئيس جورج بوش لأرييل شارون... جميع هذه الاحداث تنعكس في شكل أو في آخر على اسرائيل وتطرح سؤالاً جوهرياً: ما هو تأثير ما يحصل اليوم في وضع اسرائيل الاستراتيجي؟ أولاً: العطوبية الجغرافية إن صياغة المفهوم الاستراتيجي للدولة العبرية، ولكل دولة، عادة ما يبنى على واقعها الجغرافي - الديموغرافي - الاقتصادي ونوعية علاقتها بالآخر: الجوار والقوى الدولية. وفي نظرة الى خريطة اسرائيل فإنها كما قال عنها المفكر الفرنسي جان غوتمان أشبه بلوحة من لوحات بيكاسو في خطوطها وتعرجاتها، وهو ما عبّر عنه موشيه دايان بالقول: "كل اسرائيل منطقة حدودية". وهذا القول يؤكد عطوبية اسرائيل بفعل واقعها الجغرافي. ويمكن ترجمة هذا الواقع رقمياً بقسمة مساحة اسرائيل 20325 كلم2 على طول حدودها 1279 كلم فتكون النتيجة 9.15 كلم. وهي واحدة من أدنى النسب في العالم. هذا يعني بالمفهوم الاستراتيجي انه لكل كيلومتر من الحدود يوجد عمق في داخل الدولة بقيمة 9.15 كلم2 فقط، اي انها دولة مكشوفة ازاء الخارج وتكاد تكون منطقة حدودية لا تتمتع بعمق المساحة الجغرافية التي تبعد مراكزها السياسية العاصمة والمدن ومرافقها الحيوية عن مرمى المحيط الجغرافي العربي. وكان هنري كيسنجر نبّه الى هذه الناحية بالقول: "ان عنق اسرائيل الضيق ما بين حيفا وتل أبيب حيث يبلغ عرض المنطقة تسعة أميال فقط في بعض الأماكن، لا يمكن اعتباره حدوداً آمنة مهما كانت درجة جدية اعتراف العرب باسرائيل". في ضوء طروحات كيسنجر بمعناها الجيوبوليتيكي تمسّك قادة اسرائيل دائماً بضرورة تعديل حدود اسرائيل مع الضفة الغربية الخط الأخضر. وفي شهادة لواحد منهم اسحق شامير أمام مجلس الشؤون العالمية "ان حدود اسرائيل قبل العام 1967 كانت انتحارية. وان المارة في شوارع القدس وتل أبيب كانوا في مرمى البندقية التي تطلق عليهم من يهودا والسامرة الضفة الغربية. ولهذا هناك إجماع في اسرائيل على عدم العودة مطلقاً الى خطوط الهدنة لعام 1967 التي كانت هشة وانتحارية". انطلاقاً من هذه الاعتبارات المبنية على هشاشة الواقع الجغرافي لاسرائيل، تمت صياغة القاعدة الأولى في المفهوم الاستراتيجي الاسرائيلي والقائمة على أمرين: الاول، ضم قسم من أرض الضفة الغربية الى اسرائيل وفي شكل أخص حول القدس وفي المنطقة الغربية من الضفة كونها الجهة المقابلة للشريط السكاني الساحلي في اسرائيل. والثاني، انشاء تكتلات استيطانية كبرى في هذه المناطق وحول القدس أربعة منها دخلت في خطة شارون وباركها بوش. وهكذا ينشأ نظام دفاعي اقليمي يشكل خط الدفاع الأول عن الدولة العبرية. لم يشر كيسنجر الى مساحة الأرض التي يقترح ضمها من الضفة الى اسرائيل لأسباب أمنية. ولكن الرئيس بيل كلينتون قصّر هذه المساحة على 3 في المئة من مساحة الضفة مع تبادل للأراضي، في حين ان مشروع شارون يتمسك بضم 58 في المئة من أرض الضفة. ثانياً: العطوبية الديموغرافية في مراجعة للتصريحات والتعليقات حول مبررات خطة شارون للفصل الاحادي، خصوصاً لموقف التيارات السياسية في اسرائيل منها، يتبين ان الهاجس الأول لليهود خصوصاً في الوضع الحالي المتفجر، هو الهاجس الديموغرافي. وفي آخر تقرير أصدره مكتب الاحصاء المركزي في القدس عشية الذكرى السادسة والخمسين لقيام الدولة العبرية ان عدد سكان اسرائيل بلغ 78.6 مليون نسمة، منهم 4.5 من اليهود 81 في المئة من السكان و3.1 من غير اليهود اي العرب 82 في المئة منهم مسلمون، 9 في المئة مسيحيون و9 في المئة دروز. وفي الاحصاء ان عدد اليهود زاد خلال ال12 شهراً الماضية 80 ألفاً فقط منهم 21 ألفاً من الهجرة اليهودية. ما يعني ان نسبة النمو الديموغرافي تصل الى 48.1 في المئة وهي نسبة متدنية جداً أمام نسبة النمو الديموغرافي الفلسطيني الذي يتراوح بين 5.3 - 4 في المئة. ولهذا يجهد المسؤولون الاسرائيليون لتشجيع الهجرة اليهودية لخلق حد أدنى من التوازن الديموغرافي وخصوصاً بعد العام 1990 حيث هاجر الى اسرائيل أكثر من مليون يهودي معظمهم من الاتحاد السوفياتي روسيا. في مجال شرحها لخطة شارون بالفصل الاحادي تتساءل مجلة "نوفيل اوبسرفاتور" الفرنسية كيف يمكن ان يعيش سبعة آلاف مستوطن يهودي بين 2.1 مليون فلسطيني في قطاع غزة. وتذهب الى حد القول انه تكونت لدى شارون وطاقمه قناعة مؤداها: "لا يمكن ان تضم الى اسرائيل أرض مزروعة بالديموغرافيا الفلسطينية". وهو ما تؤكده صحيفة "هآرتس" من ان حجة الانقلاب في مفهوم الاستيطان الحاسم كانت ميزان القوى الديموغرافي: 230 ألف اسرائيلي يعيشون بين 3.2 مليون فلسطيني. وانطلاقاً من عطوبية الواقع الديموغرافي الاسرائيلي، تمت صياغة القاعدة الثانية في المفهوم الاستراتيجي الاسرائيلي والقائمة على ثلاثة امور: الاول، ضخ أكبر عدد من المهاجرين اليهود الى اسرائيل من مختلف بلدان العالم بكل الوسائل والاغراءات، خصوصاً من الدول التي فيها جاليات يهودية كبرى روسيا، فرنسا، الأرجنتين... وحتى أميركا. الثاني، السعي الى جمع المهاجرين في تكتلات استيطانية كبرى لأسباب أمنية وبالتالي العمل على ضم هذه التكتلات الى اسرائيل، وهذا واضح في ورقتي شارون وبوش الأخيرتين. -الثالث، الخروج نهائياً، داخل اسرائيل وفي أميركا والعالم، من مفهوم الدولة الاسرائيلية الى مفهوم الدولة اليهودية وهذا ما أقره الرئيسان كلينتون وبوش! وهو انتقال له أبعاده الديموغرافية والاستراتيجية لأنه على علاقة بموضوع اللاجئين الفلسطينيين وعودتهم الى دولة فلسطين وليس الى دولة اسرائيل "اليهودية" بحسب الادارة الأميركية. ثالثاً: التحديات العسكرية / الأمنية انطلاقاً من العطوبيتين السابقتين: ضيق المساحة وقلة السكان وتجمعهم على شريط ساحلي، فإن اسرائيل، كما يردد قادتها العسكريون والسياسيون، تعاني خطر عطوبية أمنية / عسكرية تتمثل في احتمال تعرّضها للضرب بأسلحة الدمار الشامل، من كل نوع، والسلاح النووي في شكل خاص. لهذا صاغت اسرائيل منذ الستينات القاعدة الثالثة في مفهومها الاستراتيجي وهي القائلة بمنع العرب من الحصول على أسلحة الدمار الشامل لا سيما السلاح النووي. ولهذا قامت في أوائل الثمانينات بضرب مفاعل تموز النووي في العراق واعتبرت ان مبررات الحرب الأميركية على العراق لتدمير أسلحة الدمار الشامل لديه تتطابق والاستراتيجية الاسرائيلية. وفي هذا الاطار تدخل الضجة التي أثيرت ولا تزال تثار حول برنامج ايران النووي. فالضغط الأوروبي والأميركي والوكالة الدولية للطاقة النووية فرملت التوجه الايراني لكنها لم تلغهِ تماماً. وجاءت اعترافات المسؤولين الباكستانيين عن السلاح النووي حول بيع أسرار التصنيع النووي وخبرته لتثير الشكوك والمخاوف من جديد وهو ما يسميه المعلق العسكري الاسرائيلي زئيف شيف "الثقوب السوداء"، اي امكان بيع مواد نووية مباشرة لإيران من باكستان من دون المرور بعمليات انتاج هذه المواد في مفاعلات ايرانية. ومثل هذا الاحتمال، ودائماً بحسب شيف، يصبح أكثر خطورة بفعل امتلاك ايران صواريخ شهاب العملانية التي تغطّي اسرائيل لأن مداها يصل الى 1500 كلم. فإذا أضيفت اليها صواريخ "حزب الله" في جنوبلبنان، ودائماً بحسب شيف، سيتولد خطر أمني على اسرائيل يمكنها ان ترد عليه "بتكبيد الجانبين ثمناً باهظاً" على حد قوله. ولم يعد خافياً، وفعنونو يخرج من السجن بعد 18 عاماً لوجوده داخل القضبان، ان اسرائيل تملك ترسانة نووية بدأت ببنائها منذ الستينات. وفي آخر تقرير صدر في المجلة الفرنسية: "التاريخ العالمي للخلافات" آذار/ مارس - نيسان/ ابريل 2004 حول اسرائيل والدول العربية. حول امتلاك اسرائيل أسلحة الدمار الشامل، جاء ان "الجيش الاسرائيلي يمتلك ما بين مئة الى ثلاثمئة وخمسين رأساً نووياً، بحسب التقديرات، وان العدد هو 200 رأس نووي بحسب الفيديرالية الأميركية للعلماء والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية". وهي رؤوس يمكن حملها بواسطة طائرات "اف - 15" و"اف - 16" الأميركية الصنع وبواسطة صواريخ "أريحا - 2" بمدى يصل الى 1500 كلم وبواسطة غواصات من نوع "دولفين" لمدى 1500 كلم. ومع ان اسرائيل أثبتت هذا الموضوع داخل أسرارها الاستراتيجية فلم تشر يوماً الى امتلاكها السلاح النووي، بل أكدت دائماً انها "لن تكون أول دولة تستخدم هذا السلاح في المنطقة" وهذا يعني انها تعتبره سلاحاً دفاعياً لا هجومياً، فإن الضجة التي أثيرت حول قدرات إيران النووية أخيراً ومسارعة الوكالة الدولية الى التفتيش... الاتهام، فقد طرح السؤال على وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في اجتماع أمني دولي أخير في ميونيخ أوائل شباط / فبراير 2004 حول الأسلحة النووية الاسرائيلية: "لماذا تهتمون بالعراقوإيران وكوريا الشمالية وماذا تفعلون مع اسرائيل. ان لديها أسلحة نووية أكثر من أية دولة أخرى. لماذا تواصلون الصمت تجاه اسرائيل؟". وبحسب صحيفتين اسرائيليتين "هآرتس" - و"يديعوت احرونوت"، 11/2/2004 رد رامسفيلد على السائل بالقول: "ان العالم يعرف الجواب وأنت تعرف الجواب. فاسرائيل هي دولة صغيرة ومحدودة السكان. وهي دولة ديموقراطية تعيش في محيط فيه الكثيرون ممن يفضّلون لو أنها غير موجودة ويرغبون في القائها في البحر. ونتيجة لذلك أوضحت اسرائيل انها لا تريد ان تجد نفسها في البحر وعملت طوال عقود لئلا يتمكنوا من القائها في البحر" "السفير" 13/2/2004. واعتبر المحللون كلام رامسفيلد هذا أول تعبير عن هواجس اسرائيل الأمنية وأول تغطية علنية تقدمها واشنطن لأسلحة اسرائيل النووية! أكثر من ذلك فقد هددت جهات أميركية بامكان استعمال قنابل نووية محدودة التأثير رداً على بعض الدعوات لتدمير اسرائيل. رابعاً: التحالف الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة منذ زمن كيسنجر الى اليوم تمت صياغة تحالف استراتيجي بين اسرائيل والولاياتالمتحدة. صحيح ان أهداف هذا التحالف تبدلت بتبدل الأوضاع الدولية: من قلعة متقدة ضد الاتحاد السوفياتي، الى القاعدة الأميركية لترويض المحيط، الى الحليف في محاربة الارهاب. كل هذه المبررات الأميركية قدمت لتبرير دعمها غير المحدود: مالياً وعسكرياً وسياسياً للدولة العبرية. وكانت الادارات الأميركية، خصوصاً في زمن الانتخابات الرئاسية، كهذه الأيام، تتبارى في تقديم الدعم لاسرائيل نظراً الى ما هو معروف من تأثير اليهود أصواتاً وإعلاماً في مسار المعركة الرئاسية الأميركية. ولئلا نكرّر تاريخ العلاقات بين البلدين، فإن القرار الأميركي الأخير للرئيس بوش والقائل باعتراض حق العودة والغاء قداسة الخط الأخضر، انما عدّه الاسرائيليون أكبر انتصار لهم منذ السلام مع مصر 1978، وبعضهم ذهب الى حد تشبيهه ب"وعد بلفور". يضاف اليه ما أسداه الوجود العسكري الأميركي في انتشاره الكثيف واسقاطه نظام صدام حسين ووضع قواته على حدود إيران وسورية وقطع الطريق على اي احتمال لقيام ائتلاف عسكري عربي ضد اسرائيل حتى مؤتمر القمة لم يعقد في حينه. كل هذا، كما يقول زئيف شيف، أدى "الى تحسن في وضع اسرائيل الاستراتيجي. فالتغير العسكري في الشرق الأوسط جاء لمصلحة اسرائيل وزالت التهديدات عنها". لقد فسر الأميركيون فشل مشروع كلينتون للسلام بأنه في بعده الصحيح "يطرح شرعية قيام دولة يهودية في ديار الاسلام"، في الوقت الذي كان كلينتون يقترب من موقف الفلسطينيين تحت ضغط العنف. أما الرئيس بوش فاتخذ الخط المعاكس: أي الاقتراب من موقف اسرائيل المتصلب وليس من دعاة العنف ضمن رسالة مؤداها وأهميتها "ان العنف لن يجلب للفلسطينيين أي مكسب" وهو ما عرف بالتطابق الشاروني - البوشي! وفي الخلاصة، أبرزت الأحداث والتطورات والقرارات الأخيرة من جديد الأسس التي قامت عليها الاستراتيجية الاسرائيلية التاريخية وفي آخر طبعاتها "الشارونية" وهي: النظام الدفاعي الاقليمي بفضل المستوطنات والضخ الديموغرافي ومنع العرب والعجم من الحصول على أسلحة الدمار الشامل وتجديد التحالف الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة وتقويته. وكان آرييل شارون اختصر الموقف الاسرائيلي بثلاثة لاءات ونعم واحدة: لا لعودة اللاجئين أي لا لحق العودة ولا للعودة الى حدود 1967 ولا للتفاوض حول مستقبل القدس والمستوطنات، ونعم للاستيطان. المجلة الفرنسية "النوفيل اوبسرفاتور" علّقت على مجمل الوضع العربي - الاسرائيلي منذ نصف قرن بالقول: "ان الفلسطينيين هم دائماً على تأخر لحرب جديدة مقبلة"، بما معناه أنهم لا يحسنون استيعاب أحداث التاريخ الا متأخرين. وهو ما وصفه روبرت مالي مستشار الرئيس كلينتون "بالأخطاء الاستراتيجية القاتلة"!