في خطابه أمام الاممالمتحدة منتصف شهر أيلول سبتمبر 2002، أثار الرئيس الاميركي جورج بوش إحتمال قيام عراق ديموقراطي، في حين كان وزير خارجيته كولن باول يبلغ الكونغرس انه "يستطيع أن يرى من الآن حكومة من العراقيين تحكم العراقيين بطريقة ديموقراطية". ومنذ ذلك الحين، كان سؤال- هاجس وحيد يفرض نفسه على كل الاسئلة الاخرى: "هل سيؤدي قيام عراق ديموقراطي الى سيطرة إيران على بلاد ما بين النهرين، عبر الغالبية الشيعية العراقية التي ستنقلها الديموقراطية الى السلطة؟ معروف أن هذا السؤال نفسه كان وراء امتناع الولاياتالمتحدة عن دعم الانتفاضات الشعبية الشيعية والكردية التي وقعت في جنوبالعراق وشماله العام 1991، كما انه كان أيضا أحد أسباب بقاء صدام حسين في السلطة بعيد طرده من الكويت. لكن يتضح الآن ان هذه الفرضية كانت أبعد ما تكون عن الواقع. لا بل أكثر: يبدو العكس هو الصحيح، فبدلاً من أن يكون شيعة العراق أداة في يد إيران، يمكن ان يكون مستقبل إيران، وبالتحديد مستقبلها الديموقراطي، في يد شيعة العراق الذين يمكن ان يمارسوا عليها، بدعم غربي، نفوذاً هائلاً. كيف؟ قبل محاولة الاجابة، وقفة أولا أمام طبيعة الحركة الشيعية في كل من العراقوإيران. في كتاب صدر العام 2002 تحت عنوان " آيات الله والصوفية والايديولوجيون" في العراق وأشرف على تحريره فالح عبدالجبار، نعثر على بحوث ممتازة حول الفروقات الضخمة بين هاتين الحركتين الشيعيتين. جاء في الفصل الاول: "تطور الشيعية في إيرانوالعراق خلال القرون القليلة الماضية، أظهر وجود عمليتين مختلفتين بشكل جذري لمسألة تشكيل المجتمعات. فسكان إيران أصبحوا عموماً شيعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، في أعقاب قيام الدولة الصفوية العام 1501. ومنذ ذلك الحين، أصبح الاسلام الشيعي هو دين الدولة في إيران عدا فترة قصيرة احتل خلالها السنّة الافغان أصفهان العام 1722. وفي المقابل، تأسس المجتمع الشيعي العراقي من أواسط القرن الثامن عشر وما فوق، في إطار عملية عكست صعود النجف وكربلاء بوصفهما معقلي الشيعة في بلد كان من ممتلكات السنّة العثمانيين". وانطلاقاً من هذا التأسيس التاريخي المتباين، تتوالى الفروقات الكبيرة بين الشيعة العراقيين والايرانيين: فالطرفان مختلفان تماماً في طبيعتهما التنظيمية، إذ أن الشيعية الايرانية تمّيزت بأشكالها التنظيمية الرفيعة بضغط من القواعد المجتمعية والشعبية الايرانية. وهكذا فإن الانغماس الفعال للمواطنين الايرانيين في تشكيل النشاطات والمعتقدات الدينية الشيعية في إيران الحديثة، كان في الواقع نظاما من القيم الاجتماعية - الاقتصادية والدينية في آن، ترجم نفسه في التحالف بين تجار البازار ورجال الدين. أما في العراق، فأن الشيعية تميزّت بالفقدان الكامل لأي تقاطع مصالح بين علماء الشيعة والطبقات التجارية. فالتجار الشيعة العراقيون لم يقدموا سوى مساهمات ضيلة لعلماء الدين، حتى حين بدأوا يلعبون دوراً تجارياً مهماً في كل البلاد في أعقاب هجرة اليهود العراقيين ومعظمهم تجار الى اسرائيل في حقبة الخمسينات. وبالتالي، لم يشكّل التجار الشيعة في العراق، العمود الفقري للمؤسسة الدينية الشيعية في بلادهم، كما حدث في إيران. وهذا ما سهلّ على الدولة التي يسيطر عليها السنّة القيام بفصل أسواق الشيعة المهمة في بغداد عن نفوذ العلماء الشيعة، الامر الذي جعل هؤلاء الاخيرين يعتمدون على التبرعات والمساعدات الخارجية. وإذا ما كانت المقارنة بين التقاطع او اللاتقاطع بين الدين والاقتصاد، تساعد على تفسير القوة النسبية للشيعية في إيران وضعفها في العراق، فإن الشعائر والطقوس المختلفة على كلا ضفتي الحركة الشيعية تكشف عن تباينات اكبر بكثير. وهذا يتجلى أكثر ما يتجلى في مناسبة عاشوراء. فقصة إلاستشهاد في إيران تعتبر محوراً مركزياً في هذه الاحتفالات، في حين أنها تعكس سمات قبلية قوية في المجتمع الشيعي العراقي. وبالمثل، فأن الاهمية المختلفة للأولياء في إيرانوالعراق، تظهر النفوذ الضئيل جداً للصوفية بين الشيعة العرب عموماً، والنفوذ الكبير لها في إيران. لا بل يبدو ان الشيعة العراقيين تأثروا بالطرق الصوفية كالبكتاشية والنقشبندية أكثر من تأثرهم بالصوفية الشيعية. ثم أن تأسيس الدولة الحديثة وصعود القومية، عززا الخلافات بين الطرفين في القرن العشرين. فالدولة في إيران دعمت الحركة الشيعية بهدف وضعها في مواجهة الحركة الشيوعية، في حين عمدت الدولة العراقية الى الفصل بين الدين والدولة. والتعبيرات المباشرة لهذه الفروقات ظهرت في الاهمية التي علقها كلا الطرفين على الحاضرات الدينية. فإيران أعلت من شأن قم كعاصمة لاهوتية، فيما شيعة العراقوإيران ودول الخليج واصلوا إعتبار النجف المركز الرئيس. وبالمثل، ركّز الايرانيون على اللغة الفارسية واهملوا العربية، فيما تمسكّ الشيعة العراقيون والعرب باللغة العربية وفاخروا بأنها لغة القرآن الكريم. وأخيراً فأن شيعة العراق هم الاكثر تمسكاً بعروبتهم وعراقيتهم، ولم يخططوا مرة للأنفصال عن الدولة العراقية. كل ما كانوا يريدونه هو نفوذ أكبر في العاصمة بغداد في إطار بلد موحّد. قد يوحي هذا العرض بأنه ليس ثمة خلافات بين السنّة والشيعة في العراق. وهذا بالطبع غير صحيح. فالخلافات موجودة، لكنها تتمحور كلها ليس حول الهوية والانتماء فهذا محسوم لمصلحة الوطنية العراقية والقومية العربية بل حول السلطة والنفوذ السياسيين. وقد اتضح هذا الامر بجلاء خلال الحرب العراقية - الايرانية 1980-1989، حين شكلّ الشيعة القوة الضاربة الرئيسية للجيش العراقي، مغلبين بذلك هويتهم القومية على إنتمائهم المذهبي، على رغم حرمانهم من العديد من الحقوق في العراق. نعود الآن الى سؤالنا الاولي : هل يمكن لشيعة العراق أن يكونوا قوة حافزة على التغيير في إيران بدل أن يكونوا أداة في يد إيران؟ الكاتب الاميركي فرانك سميث يعتقد ذلك، فهو يقول: "إن قيام حكومة موالية للغرب في بغداد يلعب فيها الشيعة ادواراً كبيرة، يمكن أن تتحّول الى رافعة دعم للمثقفين ورجال الدين الشيعة المعتدلين في إيران الذين يعارضون سياسية السلطة الدينية المحافظة. وهذا يمكن أن يوّسع قاعدة الاصلاحيين الايرانيين ويجذب نحوهم شخصيات دينية مهمة". محمد عبدالجبار، الرئيس السابق لحزب "الدعوة"، يوافق تماماً على ما يقوله سميث، ويضيف إليه ما هو أهم: "إن حكومة جديدة في العراق ستحدث تغييرات في كل العالم الاسلامي وليس فقط في إيران. والشيعة العراقيون سيلعبون دوراً كبيراً في مثل هذه التغييرات". لماذا؟ عبد الجبار لم يجب. لكن من المعروف أنه إذا كانت إيران قد أصبحت المعقل السياسي للشيعة في العالم بعد ثورة 1979 الاسلامية، فإن العراق ما زال يعتبر العاصمة الروحية للأسلام الشيعي. وهو بهذه الصفة قادر على التأثير على كل مجريات الامور في إيران وخارجها. وهذا ما تخشاه طهران المحافظة الان. أي ظهور مرجعية شيعية أخرى تنافسها على الزعامة، وتستطيع خلق متاعب خطيرة لها في خضم صراعها مع الاصلاحيين الايرانيين. وهذه المرجعية الجديدة ستكون مدعومة من طرفين قويين إثنين : الاول وجود قبر الامام علي وباقي المقامات الشيعية في العراق، والثاني الخزائن المالية والديبلوماسية الاميركية الضخمة التي ستوضع في تصّرفها. وهذا الاحتمال موجود بقوة الآن. ففي أوائل هذا الشهر إعترف محمد باقر الحكيم، زعيم "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق"، أن "حكومة ما بعد صدام ستدور بلا شك في الفلك الغربي. ورجال الدين العراقيون سيكونون مثلهم مثل أي شخص آخر. إنها ستكون ديموقراطية بقيم إسلامية". ومعروف أن هذا الشعار الاخير أي الديموقراطية بقيم إسلامية هو أيضاً هدف الاصلاحيين الايرانيين في بلادهم. وهم يتّهمون المسؤولين غير المنتخبين، بقيادة المرشد علي خامنئي، بسوء استخدام السلطة وإثارة الانقسامات والتمردات. ويشير هاجر تيموريان، وهو معلق سياسي إيراني يقيم في لندن، الى أن حدوث مشاركة كبيرة لشيعة العراق في السلطة، "سيكون بمثابة كارثة على النظام الايراني، إذ سيتوافر للشيعة الايرانيين حينذاك بديل واضح على بعد امتار منهم". على أي حال، ستكون الولاياتالمتحدة مضطرة عاجلاً أو آجلاً للتطرق الى وضعية الشيعة في العراق وأدوراهم المحلية والاقليمية. وبما انها تقول انها ستشجع قيام الديموقراطية، فإن أصوات الشيعة العددية ستفرض عليها أخذ دورهم السياسي في العراقوإيران. لا بل في إيران قبل العراق ! شيعة العراق يبلغ عدد سكان العراق 589،331،23 نسمة وفق تقديرات 2001. يقدّر عدد الشيعة من إجمالي السكان بما بين 60 الى 65 في المئة. عدد السنّة بما في ذلك الاكراد يبلغ 36 في المئة. وهناك 5 في المئة تركمان وسريان وأشوريين وأرمن. يتمركز الشيعة في الجنوب أساساً، حيث تبلغ نسبتهم 95 في المئة. اللغات: العربية والكردية والاشورية والارمنية. يتراوح عدد الميليشيات الشيعية المسلحة ما بين 10 الى 30 ألف رجل.