"لي حياة مبعثرة بين أناس وأمكنة/ وبعضها كان يضيع كمثل الصدى بين التلال/ وبعضها يسقط في النسيان./ وما تبقى قليل لا يكفي". أحب أن أدخل من هذه العبارة إلى "حكاية الرجل الذي أحب الكناري"، مجموعة بسام حجار الأخيرة الصادرة عن "دار الجديد" في بيروت. فالكتاب - كما يستطيع نص حجّار وحده أن يفعل - حكاية وليس حكاية، نثر وليس نثراً، شعر وليس شعراً... إنّه نثر سرعان ما يمسه الشعر، وخبر ينفعل قبل أن يبلغ تمامه، وشعر لا يجعل من الشعر قلبه. ولا يعود الأمر إلى كون نصّ هذا الشاعر اللبناني يتردد بين هذه الحالات جميعاً، كلّ ما في الأمر أنه لا يقيم من أي منها غرضاً بذاته. إنّه نصّ لا يتعبّد للأدب، أو يقيم له مقاماً أعلى ومتحفاً، بل يدعه يختلط ب "التعبير"، ويحرص على ألا يفارقه تماماً. المخيلة هنا لا تجافي الإلفة، والبناء لا يتحول إلى معمار مغلق. فشأن هذا النصّ شأن التطواف أو التسكع المتأني المتمهل: خطوة فوقفة ومكوث قليل فانتقال. والأرجح أن من يقرأ "الرجل الذي أحب الكناري" سيفعل كما فعل "شخص" الكتاب، أي ينتقل جيئة وذهاباً بين الأبواب والغرف. فالانتقال ليس للفرجة غالباً وليس للسياحة، إنّما يجعل العالم ممرات ومسالك. وليس ذلك تيهاً إلاّ أنه كالتيه، بل هو تيه مموه. فالأمكنة أليفة ومسماة لكنّها، مع ذلك، تتغرّب فيبدو الانتقال بينها شبيهاً بالتيه. وليست المسالك هنا متقاطعة متداخلة، لكن السير فيها مع ذلك لا يخلو من غربة ووحشة. والأرجح أن من شأن نص حجّار أن ينتقل من الالفة إلى الغربة، ومن المعلوم إلى المجهول، ومن الأنا إلى "آخرها"، ومن الوجه إلى القناع، ومن الميت إلى الغريب أو من الميت إلى الحيّ، على نحو يجعل النصّ لعبة مرايا، ويجعل من المكان البيتي في الغالب دهليزاً ومتاهة. مع ذلك فإن عالم المجموعة الجديدة ليس سيالاً ولا زلقاً ولا مكتظاً ولا شاسعاً. فعالم بسام حجار ميزته، في الأخير، أنّه محل كائنات وموجودات ثابتة، قليلة راسخة لأوّل وهلة: الشجر والكناري والغرفة والسرير. عالم منزلي يعرفه المرء كما يعرف كفّه. ثمة "فتشيّة" أو "تيميّة" ما هنا التعلّق بالأشياء، فالدوران حول الشجرة والسرير والكناري أقرب ما يكون إلى تكريسها. لكنّنا نشعر أن بين هذه جميعها فراغات، بل ان سيرة الرجل الذي أحب الكناري - إذا كانت له من سيرة - لا تكاد تتجاوز الغرفة والسرير والرئة المثقوبة والتدخين. فهي سيرة من أشياء أكثر منها من أخبار، وقلما نجد فيها أحداثاً سيالة، لكننا نجد فيها شواهد راسخة شاخصة. سيرة أشياء قليلة لا تخلص إليها الحياة الاّ وقد خسرت زمنها وما يجعل لها سياقاً وسيرورة. أي انها "القليل" الذي تبقى والذي "لا "يكفي" لحياة كاملة. إنها أطلال ورسوم ليس إلاّ. وإذا اجتمعت في اطار، وبدت الحياة كامنة فيها، فهذه هي الرواية، لكنها حياة متقطّعة بال "نسيانات"والفجوات على حد تعبير بسام حجار. "الرجل الذي احب الكناري" مُنْقطع آخر لبسام حجار. إنه يذهب بعيداً في الشتاء، لكنه في أبعد المناطق وأكثرها وحشة يكتب بألفة من يتوطن حتى في الحيرة والوهم.