سمو أمير منطقة الباحة يرأس الإجتماع الأول للجنة الإشرافية العليا لصيف الباحة    خبير قانون دولي ل«عكاظ»: أدلة قوية لإدانة نتنياهو أمام «الجنايات الدولية»    واشنطن تحذّر من مجزرة في الفاشر    تعليق الدراسة يوم غدٍ الأربعاء في الرياض    مدرب بلجيكا يؤكد غياب تيبو كورتوا عن يورو 2024    فيصل بن فرحان ووزيرة خارجية المكسيك يناقشان آخر التطورات في قطاع غزة ومحيطها    نمر يثير الذعر بمطار هندي    تطوير العمل الإسعافي ب4 مناطق    مهتمون يشيدون ببرنامج الأمير سلطان لدعم اللغة العربية في اليونيسكو    41 مليون عملية إلكترونية لخدمة مستفيدي الجوازات    محافظ الريث يستقبل مفوض الإفتاء الشيخ محمد شامي شيبة    عسيري: مناهضو اللقاحات لن يتوقفوا.. و«أسترازينيكا» غير مخيف    أغلى 6 لاعبين في الكلاسيكو    «جامعة نايف العربية» تفتتح ورشة العمل الإقليمية لبناء القدرات حول مكافحة تمويل الإرهاب.. في الرياض    "موسم الرياض" يطرح تذاكر نزال الملاكمة العالمي "five-versus-five"    دوريات «المجاهدين» بجدة تقبض على شخص لترويجه مادة الحشيش المخدر    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل الرئيس التنفيذي لجودة الحياه    أمير منطقة الباحة يشهد اتفاقية تعاونية بين الباحة الصحي والجمعية السعودية الخيرية لمرضى ( كبدك )    ميتروفيتش ومالكوم يقودان تشكيلة الهلال ضد الاتحاد بنصف نهائي كأس الملك    مساعد وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة للشؤون الخارجية والعالمية في إسبانيا    نائب أمير مكة يطلع على الاستعدادات المبكرة لحج 1445    اجتماع الرياض: إنهاء حرب غزة.. والتأكيد على حل الدولتين    مفوض الإفتاء بالمدينة: التعصب القبلي من أسباب اختلال الأمن    مجلس الوزراء يجدد حرص المملكة على نشر الأمن والسلم في الشرق الأوسط والعالم    خبراء دوليون: تقنيات الذكاء الاصطناعي توفر 45% من استهلاك الطاقة في إنتاج المياه    3000 ساعة تطوعية بجمعية الصم وضعاف السمع    الحقيل يجتمع برئيس رابطة المقاولين الدولية الصينية    مدير هيئة الأمر بالمعروف بمنطقة نجران يزور فرع الشؤون الإسلامية بالمنطقة    شؤون الأسرة ونبراس يوقعان مذكرة تفاهم    وزير الطاقة: لا للتضحية بأمن الطاقة لصالح المناخ    الصحة: تعافي معظم مصابي التسمم الغذائي    فيصل السابق يتخرج من جامعة الفيصل بدرجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الثانية    مركز الملك سلمان للإغاثة يوقع على ميثاق صندوق العيش والمعيشة التابع للبنك الإسلامي للتنمية    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 34.535 شهيدًا    الشِّعر والنقد يفقدان النموذج الإنساني «عبدالله المعطاني»    محافظ الخرج يكرم الجهات المشاركة في حفل الأهالي لزيارة أمير منطقة الرياض    إطلاق هاتف Infinix GT 20 Pro الرائد    الفرص مهيأة للأمطار    "هورايزن" يحصد جائزة "هيرميز" الدولية    تراجع طفيف بأسعار النفط عالمياً    الخريف: نطور رأس المال البشري ونستفيد من التكنولوجيا في تمكين الشباب    العميد والزعيم.. «انتفاضة أم سابعة؟»    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل سفير جمهورية إندونيسيا    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    العربي يتغلب على أحد بثلاثية في دوري يلو    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    لوحة فنية بصرية    وهَم التفرُّد    عصر الحداثة والتغيير    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    بقايا بشرية ملفوفة بأوراق تغليف    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    ولي العهد ووزير الخارجية البريطاني يبحثان المستجدات الإقليمية والتصعيد العسكري في غزة    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأثر شاباً بنزار قباني وانحاز الى السياب . محمود درويش ل "الوسط" من حق الشاعر إعلان الهزيمة 1 من 3
نشر في الحياة يوم 25 - 09 - 1995

لا يمكن الحوار مع محمود درويش أن يكون عادياً، خصوصاً حين يدعونا الرجل الذي يقف على حدة فوق خريطة الشعر العربي الحديث، إلى رحلة طويلة في عالمه الابداعي وذاكرته وتاريخه الحميم. قبل أيّام، عاد الشاعر الذي يعبّر عن الوجدان الفلسطيني، إلى مناطق الحكم الذاتي زائراً، "كمواطن عادي"، كما قرّر الاستقرار نهائياً في عمّان خلال الأسابيع المقبلة. يأخذ درويش حذره عادة من "الفخ الاعلامي"، لكنّ ذلك لم يمنعه من الاسترسال في حديث طويل، يتميّز بنبرة جريئة ووعي حاد لصعوبة المرحلة وتعقيداتها والتباساتها. هكذا استدرَجَنا صاحب "كيف تركت الحصان وحيداً؟" إلى أرضَ اليأس والغربة والخسارة...
سمعنا ضحكاً طوال الشريط الذي سجل عليه حديثنا مع محمود درويش، ضحكاً ومزاحاً وقهوة دوبل وحواشي بلا عدد. كنا سعداء بهذا الحديث، وكذلك محمود درويش. كنا نريده مكتوباً او غير مكتوب، مسجلاً او غير مسجل. لم نعرف نحن الأربعة كيف نشغل المسجل، فتكلمنا للهواء ساعتين. ضيّعنا لقاءين قبل ان نبدأ الحديث الذي، بعدما اطلنا انتظاره، لم نعرف كيف نوقفه فتكفل به الوقت. بقي أبتر قليلاً، ربما ذريعة ايضاً لموعد آخر. أردنا هذا اللقاء واحداً من مسرات مهرجان جرش لهذا العام. أردناه نوعاً من نص مشترك لاصدقاء: أمجد ناصر من لندن، وغسان زقطان من أريحا، وأنا من صيدا لبنان. حضر محمود درويش من باريس، وكان يعدّ للاستقرار في عمّان، ويتهيّأ لزيارة غزّة.
لم يكن الحديث سوى طريقة وربما حجة للحضور. اشترك امجد واستمع غسان الاّ في النادر وتكلم محمود من دون كلفة. ونسي المسجل مفتوحاً فجمع ما جمع. حضرنا جميعاً، وتكلم كل بحسبه. وهذا الحديث يبقى مع ذلك ذريعة ونصاً مشتركاً لأصدقاء.
في "لماذا الحصان وحيداً" نصادف الادب الذي لا نصادفه كثيراً في شعرك، لكننا نراه الآن مقترناً بالرحيل والنزوح فيما الأم في شعرك متصلة دائماً بالارض والبقاء. في مجموعتك الأخيرة هذه نشعر بأنك تقترب من سيرة شخصية، وان عدداً من اشاراتها يعود إلى وقائع حقيقية. هذا يجعلنا نفكر في طفولتك.
- الأم هي الأم، والاب هو الاب، إنهما بشر. لكن كلا منهما يحمل دلالات مختلفة. لا يكفي ان تحمل الأم فكرة البقاء المكاني والتاريخي في الارض الفلسطينية، لتقف عند هذه الكناية. كان الآباء عبر التاريخ كثراً والأم واحدة. الأم ذات هوية مستقرة، والآباء متغيرون. الارض التي ولدت عليها هي، كما تعلم، ملتقى غزاة وأنبياء، رسالات وحضارات وثقافات. ولكنهم عابرون، عبوراً يطول او يقصر، فالاب لم يكن واحداً ولا نهائياً ولا دائماً. من هنا كان انتسابنا الحضاري والثقافي اكثر إلى الارض، إلى الأم.
ومن ناحية أخرى أنا من جيل حمّل آباءه مسؤولية الرحيل والهجرة لأنهم الآباء. آباؤنا لم يدافعوا جيداً عن ارضنا، وما زلنا نسألهم عن ذلك، ولا تزال صلتنا بهم ملتبسة بالسجال والخلاف، فيما تبقى الأم مستقرة في مثالها المنحدر من عصر الامومة القديمة. هذا تفسير سريع لاختلاف ما بين تناولي للام وللاب. لم أكن طبعاً أعي شعري، ولم يكن هذا واضحاً لي في طور شعري السليقي. لكنني في "لماذا تركت الحصان وحيداً" أسجل ما يشبه السيرة، وأعيد تأليف ماضيّ، لذا أحمل الأم والاب دلالات تتجاوز الصفة العائلية، دلالات مكانية وثقافية وانسانية.
هل تتكلم عن ابيك وامك الحقيقيين؟
- نعم، أمي وأبي الحقيقيين. أنا من أسرة ريفية. عائلتي تملك ارضاً، وتشتغل في الأرض، وتعيش من انتاج الارض. عائلة متوسطة الحال، من الطبقة الوسطى الفلاحية. لذلك طفولتي مليئة بصور "ورشة" الارض. كان جدي هو الاب الحقيقي، بسبب انشغال أبي في التربة وملاحقة الفصول. يخرج في الصباح ويعود في المساء، ويتركنا انا واخوتي في رعاية جدي. كان هو أبانا الحقيقي، يدللنا ويأخذنا في نزهات ويصحبنا إلى المدن. أبي ككل المزارعين مستغرق في عمله في الارض حتى كأنه قطعة منها. أمي امرأة جميلة جداً، هي ايضاً اشتغلت في الارض.
اكتشفتُ أن أمّي لا تكرهني
إسمها حوراء...
- اسمها حوراء، هي ليست من قريتنا. من القرية المجاورة، بنت مختارها. لما كبرتُ سألت أمي وأبي كيف تزوجا، وعلمت أن زواجهما كان تقليدياً. بحث جدي عن عروس لابنه، فقيل له إن لدى مختار القرية المجاورة ابنة. فخطبها لابنه، وهكذا تزوجا قبل ان يتاح لأحدهما أن يرى الآخر. لا بد طبعاً أنهما استرقا النظر بعضهما إلى بعض قبل الزواج. كان بينهما مشاحنة واحتكاك، خصوصاً بعدما خرجت الأسرة من ارضها، وانفصلت عنها، ومرت في ظروف صعبة جداً.
كنتُ ألاحظ أن أمي عصبية جداً وأبي مستغرق في التحسّر على الارض. مشاحناتهما دعتني مراراً إلى لهروب من البيت. لكني كنت مع ذلك منحازاً إلى أبي، لأنه مسالم وخجول جداً، وفي طبع امي شراسة. كانت أمي تضربني كثيراً، وتضربني لأي سبب، وكثيراً ما شعرت أن السبب هو خلافاتها مع أبي، وأنها تحمّلني أحياناً مسؤولية هذا الخلاف. تكوّن لدي شعور بأن أمي تكرهني كان هذا عقدة أو شبه عقدة. ولم أعلم أنه ليس صحيحاً الاّ حين دخلت السجن للمرّة الأولى، وأنا في السادسة عشرة. زارتني أمي في السجن، وحملت لي قهوة وفواكه، واحتضنتني وقبلتني فعلمت أن أمي لا تكرهني. كتبت "أحن إلى خبز أمي" قصيدة مصالحة معها، ولما انفصلت عن الاسرة وعشت في حيفا اكتشفت أنني الابن المدلل لأنني الغائب لا الأفضل.
أنت الابن الاكبر؟
- كنت الثاني، وهذه مشكلة. للاكبر أب يحميه. وللاصغر أم تحميه. ومن في الوسط ضائع. في "لماذا تركت الحصان وحيداً" سعيت إلى تسجيل طرف من هذه السيرة، لكنها ليست شخصية فحسب. إنها، من دون قصد، تحمل تاريخاً عاماً.
خرجتم من فلسطين بعد ال 48 إلى لبنان، وبعد فترة اقامة فيه، عدتم إلى فلسطين. هل تركت هذه الفترة لك شيئاً؟
- تركت لي صوراً. ربما تجربة. لكن الصور اوضح لي من التجربة. في لبنان رأيت للمرّة الأولى شلالاً، ولم أكن أعرف من قبل ما هو الشلال. رأيتُ التفاح معلقاً على شجر، وكنتُ أحسبه ينبت في صناديق. كانت رحلتنا إلى لبنان في وعي جدي سياحة، وهي تحولت بالفعل إلى سياحة.
جدك خرج معكم؟
- هو الذين أخرجنا، وكبقية الفلسطينيين الذين خرجوا كان يظن أن الهجرة موقتة، وأنها ليست أكثر من إخلاء الارض للمعارك والجيوش فترة يعود بعدها إلى بلده وأرضه. أقمنا بضعة أشهر في جزين، وهبط الشتاء فرأيت الثلج ولم أكن رأيت الثلج من قبل، وانتقلنا إلى الدامور. أتذكر التراموي في بيروت، سبحنا على شاطىء الدامور. صور وذكريات كثيرة تعيدني إلى هذه الفترة، في لبنان أيضاً سمعت أول كلمة جارحة.
وهي؟
- لاجىء. في المدرسة، لدى أي خلاف مع طالب آخر، كنت أسمع كلمة لاجىء. لكي لا أظلم اللبنانيين، هذه الكلمة عدت أسمعها عندما عدنا إلى بلادنا. صرنا نسمعها من أبناء القرية الأخرى. فنحن لم نعد إلى قريتنا. في المدرسة كانوا يشتمونني لأنني أشطر منهم في الصف بكلمة "لاجىء".
تدمّر مكاني الأول
لم تجدوا قريتكم حين عدتم؟
- لم نجدها، لم تعد موجودة. أقيمت في مكانها مستوطنتان، واحدة لمهاجرين أوروبيين وأخرى لمهاجرين من اليمن.
يعني أنت فقدت فلسطين حتى بعد العودة؟
- أنا لم أعد إلى وطني الشخصي. لم أعد إلى مكاني الشخصي. تدمر مكاني الاول تماماً منذ البداية. من هنا فإنني حين أحكي قصتي اروي رغماً عني قصة جماعية. دعنا ننتهي من جدل الانا والجماعة، فالمصادفة وحدها جعلت من قصتي الشخصية قصة جماعية. ولهذا تتعرف الجماعة إلى صوتها في صوتي الشخصي. آن أن ننتهي من ذلك النقد الذي لا يحيد عن الأنا والجماعة.
هل تشكلت في هذه الفترة المبكرة من وعيك صورة لليهودي الاسرائيلي؟
- المرة الأولى التي رأيت فيها اسرائيلياً، كانت بعيد عودتنا متسللين من لبنان. أقمنا عند أقارب لنا في قرية أخرى. وكنا، نحن الخمسة، ننام في غرفة واحدة. في منتصف ليلة دخل ضابط اسرائيلي وأيقظ جدي من النوم، وسأله كيف تسلل. لم أخف من هذا الضابط فقد كان لطيفاً. تلك صورة أولى. لم تكن الصورة التالية مثلها. في طفولتي القيت قصيدة عربية في مهرجان المدرسة، فاستدعاني ضابط وهدّدني وكلمني بمنتهى الجلافة. كان أفضل المدرسين معلمة يهودية، وبالطبع كان أول سجان يهودياً. مدرّس اللغة الانكليزية ومدير المدرسة لم يكونا وديين... بالتالي هناك أكثر من صورة للآخر.
والعدو؟
- من البداية كانت صورة انسانية. متعددة هي الأخرى ومتنوعة. ما من نظرة وحيدة ونهائية إلى الآخر. من علمني كان يهودياً، من اضطهدني كان يهودياً. التي أحبتني كانت يهودية، والتي كرهتني كانت أيضاً يهودية.
هل نتكلم عن غرام يهودية؟
- نعم ممكن.
ذلك موجود في شعرك؟
- نعم موجود. أما كيف يحصل غرام، فهذا يتعذر تفسيره. المصادفة تصنع غراماً. مساعي الرغبة أو العاطفة هي التي تخلق القصة. المجتمع الاسرائيلي منفتح وأوروبي بالقياس إلى المجتمع العربي المحافظ والتقليدي. ولم يكن سهلاً اقامة علاقة عاطفية مع فتاة عربية. الحب الاول كان طبعاً مع فتاة عربية لكنه حب رسائل. ولكن رسالة من هنا ورسالة من هناك. العرس الكبير عند وصول الرسالة، والثاني عند وصول الرد. اول علاقة متكاملة كانت مع يهودية.
عدوّ الحبّ أيضاً...
هل خالط هذه العلاقة إحساس بإشكال؟
- هي علاقة إشكالية دائماً، وبخاصة مع أهل الفتاة. أهلنا بالطبع لا يدرون شيئاً عن حياتنا العاطفية، وليس هذا حال أهل الفتاة. مواقف الأهل كانت تختلف باختلاف مصادرهم وتربيتهم الايديولوجية. أحببت مرة فتاة لأب بولندي وأم روسية، قبلتني الأم ورفضني الأب. لم يكن الرفض لمجرد كوني عربياً. ذلك الحين لم أشعر كثيراً بالعنصرية والكره الغريزي. لكن حرب 1967 غيرت الأمور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل. تصور أن صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلاً، أو حتى في القدس. ذلك لن يثقل فقط على القلب، ولكن على الوعي أيضاً. حرب 67 خلّفت قطيعة عاطفية في علاقات الشبان العرب والفتيات اليهود.
في قرارة نفسك كنت تشعر أن من الصعب أن يكون هذا الحب كلياً؟
- بلى.
حتى من دون الحرب كان حبّاً صعباً وغير كلي؟
- حتى من دونها ما كان بوسعه ان يكون سعيداً، وأن يذهب بعيداً في مشروع طويل المدى. تبقى نزوات ورغبات وعواطف ولكن بلا أفق، والسبب في الاختلاف الثقافي والمجتمعي. المجتمع الآخر كان أقل قبولاً للعربي، كنا الغرباء في نظرهم.
لم يكن ممكناً ان تختفي فكرة العدو نهائياً؟
- لا لم يكن ممكناً ان تختفي. ولكن بوسع النساء أن يخفين هذه الافكار.
هل قدرت مرة ان تصل بعلاقة إلى حد ان تختفي فكرة العدو نهائياً؟
- كان هناك دائماً جهد كبير لاجراء مصالحة بين الجانب الانساني والفكري الايديولوجي من علاقة. وهذه تتأزم أو تتوازن حسب الظرف الخارجي، لكنها في النهاية تصل إلى مأزق. كان مستحيلاً الاستسلام لحب سعيد. الشارع نفسه يحرّض ويثير الخلاف. كان العدو يختبىء في العلاقة. الرجل والمرأة يتعانقان والعدو تحت الشرفة.
إنه عدو الحب أيضاً...
- هو عدو الحب فعلاً. في قصيدة مبكرة لي بعنوان "امرأة جميلة في رسوم"، كتبت: "وكلانا يقتل الآخر خلف النافذة". كان الوعي نفسه منقسماً. يبقى العشق على المستوى الشخصي فقط. الشخصي الانساني يسرق من الحب هدنة للجسد، لكن المرء ما ان يخرج من جسده إلى الشارع حتى يلتقي بفكرة العدو.
يعني أن الجسد يتحرر من المواصفات الخارجية ويتوحد.
- الجسد يحقق استقلاليته في غابة، أو غرفة مغلقة، وبعيداً عن الشارع والشمس.
الأمر يختلف حين يكون الآخر فرداً، أو حين يبدو ظلاً لجماعة.
- حين تكون فرداً ويكون الآخر فرداً يختلف الأمر. كان لي أصدقاء كثر من اليهود. لكن الفرد تستردّه جماعته في لحظة ما. أحد أفضل أصدقائي، وهو جار يهودي، جاءني عشية حرب حزيران يونيو 67 ليودعني ويقول لي إن الحرب واقعة من دون شك وانه يعرض اتفاقاً. أن يحمي احدنا الآخر أيّاً تكن النتيجة. يعني ان أحميه اذا دخل الجيش المصري إلى حيفا، ويحميني اذا انتصر الجيش الاسرائيلي. في قصيدتي "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" كتبت عن هذا الصديق الذي جاءني بعد الحرب ليقول لي إنه قرر أن يغادر البلاد نهائياً، لأنه لا يستطيع ان يبقى ترساً في آلة حربية. كانت انسانيته عالية، وتربيته قائمة على التعدد والانفتاح على الآخر. جاء إلى اسرائيل وفي باله مشروع انساني، فوجد أن الحقيقة غير ذلك. لذا هاجر ورحل. والقصيدة تتكلم عنه هكذا، الفرد يهرب إلى حاله. يسرق فرديته من الجماعة. لكن ضغط الجماعة قاس وكبير.
الضغط الاعلامي مثلاً قوي. في المجتمع الاسرائيلي ذلك الحين، كانوا يقدسون ما تقوله الجريدة. وإذا أُحرج اسرائيلي في نقاش حسم الامر بقوله: هكذا قالت الجريدة. ذلك أن الواحد إذا شاء على مستوى الوعي ان يتحرر ويراجع رؤيته للآخر فإن التربية الاعلامية والمدرسية تعيده إلى الغيتو، غيتو المنتصر.
لم تصلنا مجلة "شعر"
تكلمت قبل قليل عن "الغرباء". وهذه لازمة في شعرك. أين هو منشأ هذه الفكرة؟
- ثمة مستويات عدة لمفهوم الغريب. مستوى أول وبسيط مرده إلى أننا نعامل كغرباء في بلادنا. الاكثرية اليهودية المنتصرة والمهيمنة تعاملنا على أننا لسنا في بلادنا، بل في بلادها التي استعادتها بعد ألفي سنة! مستوى آخر بسيط من الغربة نابع من كوني لم أكن على أرض قريتي التي زالت من الوجود، بل على أرض جيراننا العرب. هذه غربة داخل المجتمع الواحد. داخل النفس. غدا مفهوم الغريب بعد ذلك مركباً أكثر يشمل الوضع البشري.
كلنا غرباء على الارض. منذ طرد آدم وهو غريب على هذه الارض التي يحيا عليها موقتاً إلى أن يستطيع العودة إلى جنته الاولى. اختلاط الشعوب وهجراتها على هذه الارض مسار غرباء، وحتى السلام لا يتحقق في فترات من التاريخ الا بصفته اعترافاً من غرباء بغرباء آخرين، إلى حد لا نعود نعرف معه من هو الغريب الحقيقي. ثمة أشكال عدة للغربة. في شعري تمييز بين الغريب والعدو والاجنبي. الغريب ليس الآخر وحده، ولست أذكره في معرض الشكوى ولا رفض الآخر. إنه ايضاً فيّ.
إنه تسمية للذات؟
- تسمية للذات، ربّما. وحتى حين لا تكون كذلك، فهي أقل مسافة وأقل بعداً من مفهوم "الآخر".
وهل من مفهوم واحد ل "الآخر"؟
- في الجملة الشعرية نفسها هناك مستويات عدة للآنا والآخر الغريب والاجنبي. وحتى في أقصى درجة من توتر المفهوم، أي عندما أقصد العدو، لا أعبرّ عن ازمة اختلاف. حتى هنا أسمح للعدو أن يملك صوتاً وأن يعبر عن نفسه.
أريد أن أرجع إلى سؤال أخشى أن أنساه. نشأتك الشعرية هل في العائلة شعراء؟
- لا ليس فيها شعراء ولا كتّاب. في حدود معرفتي لشجرة العائلة.
من أين جاءك الشعر؟
- لا أدري من أين. حاولت مرة أن أبحث في تربيتي عن نسب شعري داخل أسرتي ففكرت في أمي. أمي كانت تكره الاعراس ولا تذهب إليها، لكنها تحضر كل جنازة. صادفتها مرة في جنازة وهي تندب، سمعتها تقول كلاماً كله شعر. اذا بحثنا عن اصل وراثي للشعر، فقد يكون منشأ شعري من الكلام الصامت والمخزون لامي. لكن الذي ساعدني شعرياً وأخذ بيدي ورعاني أخي الاكبر، وهو الذي شجعني على أن أطورّ تأتأتي الشعرية الاولى.
هو ليس كاتباً.
- لا. كان كاتباً.
إذاً هناك كتّاب في الاسرة؟
- لكنه تخلى عن الكتابة واكتفى بأن يشجعني. معلميّ الاوائل ساعدوني أيضاً على تطوير نفسي.
هل نحكي عن قراءاتك الاولى؟
- أول تأثراتي الشعرية بالشعراء الشعبيين، شعراء الافراح وشعراء المحاورات الزجلية.
محاورات الزجالين؟
- بعد تسللنا من لبنان، أذكر بيتاً في طرف القرية كان يتردد عليه في الليل مغن يروي بصوت جميل وشعر جميل، ثم يختفي اوقات النهار لأن الشرطة تلاحقه. كان هذا المغني في مخيلتي حين كتبت في قصيدة "الارض": "يغني المغني عن النار والغرباء، وكان المساء مساء". هذا الشخص المطارد من الجيش الاسرائيلي نسمعه في الليل ويختفي في النهار، يحمل رحلته في صوته وشعره وغنائه. يروي قصته كمطارد. وكيف يبحث عن اهله، كيف يصعد إلى الجبال ويهبط الوديان. هكذا لاحظت كيف يمكن الكلام ان يحمل الواقع او يكون معادلاً له.
ما هو اول شعر اتصلت به ؟وماذا عنى لك الشعر في تلك الفترة؟
- أول شعر تأثرت به هو الذي كنت اسمعه في مجالس البيت: سيرة عنتر والملاحم الشعبية عامة.
السير الشعبية؟
- السير الشعبية مليئة بالشعر. كان صوت الراوي يخطفني ولا أدري لماذا. كنت ولداً صغير يستمع ويندهش. في المدرسة علمت أن الشعر لا يروى فحسب، بل يكتب أيضاً. هناك قرأت القصائد المقررة وكانت مختارات من المعلقات، من المتنبي وجرير والفرزدق... لكن اول شعر حاولت تقليده كان الاندلسي والمهجري لأنه أسهل على التقليد. بعد ذلك غدت صلتي بالشعر أكثر مباشرة، أعني أنهم باتوا يحضرون لي كتب شعر.
اذا قفزنا قليلاً عن النشأة الشعرية، الا نجد أصواتاً أقرب زمناً اثرت في شعرك؟ نزار قباني مثلاً؟
- صحيح.
إلى أي درجة؟
- لم نكن وأبناء جيلي في فلسطين مواكبين للشعر العربي المعاصر. ولم يصلنا صوت الشاعر الحديث الاّ متقطعاً، فلم نكن جزءاً من الاصغاء العام إلى هذه المغامرة الشعرية الكبرى. وصلتنا في بداية الخمسينات نتف من الشعر الحديث عن طريق الصحف والمجلات وبعض الكتب المتسللة إلى الجامعة. وصلنا صوتان أساسيان: البياتي والسياب، إضافة إلى صوت نزار قباني الملتبس في صلته بالشعر الحديث.
كنت طبعاً وأبناء جيلي معجبين، في نشأتنا، بغنائية نزار قباني وترقيصه لسطوح الواقع والعلاقات الانسانية. حفظنا هذا الصوت. لكن صلتنا بالشعر الحديث تركزت على السياب والبياتي. رجح صوت البياتي اولاً لاسباب سياسية. روجت الاحزاب السياسية اليسارية يومها للبياتي، فيما كان الاكثر اهتماماً بجمالية الشعر يرجحون السياب. تأرجحنا بين هذين الصوتين لكن الفترة كانت فترة طغيان للسياسة اليسارية والثورة، ونظر إلى لشعر والثقافة عموماً على أنهما في خدمة الواقع والثورة والمجتمع. فكان صوت البيّاتي هو الأعلى وولم يكن بوسعنا الخيار. كنا أمام الجحيم ولم يكن بوسعنا أن نفكر أبعد من ذلك. في مرحلة متقدمة قليلاً صار خياري سياسياً ورجح السياب عندي على البيّاتي، وبقي خيار عدد من الزملاء بياتياً.
أما سجال الشعر الحديث، فلم أتصل به الاّ بعد خروجي من فلسطين. فاتني ان اقول اننا اتصلنا ايضاً بصوتين مصريين مهمين هما أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور. هؤلاء الشعراء الاربعة، إضافة إلى نزار قباني، كانوا اطلالتنا الاولى على ما يجري أبعد من السور الثقافي الذي كنا نحيا خلفه. وكما قلت لك، المتابعة الحقيقية والاصغاء والترتيب والخيارات الاساسية جاءت في ما بعد.
ألم تكونوا على صلة بتجربة مجلّة "شعر"؟ ألم يكن لها صدى عندكم؟
- لا. لا. لم تصلنا أصداء من تجربة "شعر". كنا مستغرقين في ظروف العمل السياسي، مندمجين في مشروع ثوري. خياراتنا الشعرية وانتقاءاتنا من الشعر العربي الحديث خضعت لذلك. لذا كان هناك حجب كامل لمجلة "شعر" وما يتصل بها.
حتى على مستوى العلم؟
- حتى على مستوى العلم. كانت هناك نشرات قليلة جداً، لكن اطلاعنا لم يكن حقيقياً. بلى، وصلنا صوت محمد الماغوط. ولكن لا أدري اذا وصلنا عن طريق مجلة "شعر" أو عن طريق آخر.
ماذا عنى لكم الماغوط ذلك الوقت؟
- أعجبنا بالماغوط. قدرة لغته على تحويل الواقع بدت جديدة علينا. كنا فعلاً مهووسين بالخروج من العمود الشعري، مهيئين للاستجابة لتجارب كهذه. كان الخروج من التقليد الشعري هاجسنا، لذا وجدنا في شعر الماغوط صوتاً حاضراً.
لم تتأخروا في معرفة الماغوط؟
- ذلك كله تم في الستينات. ولكن كانت هناك أيضاً مواكبة لمختارات من الشعر العالمي. ناسبت وعينا وذائقتنا يومئذ نصوص لناظم حكمت وأراغون نيرودا، وبخاصة شعرهم المقاوم.
كان هناك تمثّل لهم؟
- تشابه ما. في مرحلة ما كان شاعري العالمي بلوك.
هل افادتك معرفتك بالعبرية في هذا المجال؟
- تعلمنا العبرية مع العربية. أي قبل ان ندرس الانكليزية بأربع سنوات، من الطبيعي إذاً أن نتقن العبرية.
زملاؤك يقولون إنك كنت اقواهم في العبرية!
- كل جيلي يتقن العبرية. كانت اللغة العبرية بالنسبة إلينا نافذة تطل على جهتين: التوراة وهو كتاب مهم على الرغم من كل شيء. قرأت المزامير ونشيد الاناشيد وسفر الخروج وسفر التكوين وهذه مادة لا غنى عنها لأي مثقف. أما الجهة الثانية فهي الادب المترجم، فقد كانت حركة الترجمة إلى العبرية ناشطة جداً يومذاك، ونقل الآداب الاجنبية إليها قائم على قدم وساق. أول ما قرأت لوركا قرأته بالعبرية، نيرودا أيضاً قرأته بالعبرية. قد يفاجئك أن تعلم انني قرأت التراجيديا الاغريقية للمرة الأولى بالعبرية. لا يسعني الاّ أن اقر بديني للعبرية في تعرفي إلى الآداب الاجنبية.
نحنّ إلى نفس المكان
ماذا عن الشعر العبري، الشعر المكتوب بالعبرية؟
- كنا متنازعين بين الشعر المقرر علينا في المدرسة، وما نقرأه باختيارنا. كان مقرراً علينا شعراء كلاسيكيون، بيالك مثلاً، وإلى جانب ذلك كنت أهتم بقراءة الشعر العبري المعاصر. لم أحب بيالك بطبيعة الحال، لم أحب ما في شعره من حنين بدائي ايديولوجي، لكنني أحببت ان اتعمق في اللغة العبرية. وكان يهمني في شعر الكلاسيكيين الجانب اللغوي أكثر مما تهمني الرسالة الشعرية. بيالك ليس صاحب مشروع جمالي، وشعره ايديولوجي يؤسس للحلم الصهيوني. لكن حنين بيالك هو للمكان نفسه، للارض نفسها التي ولدت عليها. المكان واحد والاوصاف واحدة. هذا الالتباس وجدته في ما بعد، في شعر يهودا أميحاي، أهم شعراء العبرية المعاصرين. فقصائده عن المكان اذا جهلت اسم صاحبها لا تدري اذا كانت لشاعر عبري او لشاعر عربي.
هل المكان فقط واحد، أم أن هناك أيضاً مخيلة المتاهة ونوازع الغربة والمنفى؟
- الحنين والغربة هما في الشعر الكلاسيكي. الشعر العبري الحديث لا يعود إلى هذه المواضيع. هناك المكان والطبيعة والبحث الجمالي عن آفاق الخروج من أبهة الاسطورة إلى الحياة اليومية. هذا ما يجذبني في شعر أميحاي، فهو مضاد للاسطورة، يحاول ان يؤسس جمالياته من عناصر المكان البسيطة، ومن النزوع نحو حياة انسانية عادية. البحث عن المألوف والعادي في الحياة هو من العناصر التي شدتني إلى شعره، وهو إلى ذلك يكتب شعره خارج التقاليد الكلاسيكية العبرية. إنه متمرد على القافية، متمرد على الايقاع، ينتج فنياً شعراً متجدداً. ما اعطتنا إياه العبرية إذاً هو، الاضافة إلى الاطلاع على الشعر العبري، الاطلاع على الآداب الاجنبية المترجمة اليها.
هناك ثلاث محطات، ثلاث استعارات كبرى للموضوع الفلسطيني: الارض، البحر، التاريخ. أنت تدرج الموضوع الفلسطيني بين هذه المحطات. الارض الريفية، والبحر الأوديسي وأخيراً يستقر على التاريخ الجندي الاحمر، غرناطة....
- هذه المحطات الثلاث أساسية في الشعر الفلسطيني، على الأقل في تجربتي الشخصية. الارض ليست دائماً هي الارض الفلسطينية، فثمة ذوبان للحدود بين الارض عامة، ارض الكوكب، ارض الانسان، وارض الملكية الخاصة المصادرة، ارض الهوية الوطنية. وأنا أسعى في تناولي للارض إلى مزج هذه الابعاد، إلى دمجها في وحدة حرصت في وقت ما على أن تكون شبه صوفية: وحدة للكائنات تمتزج فيها المرأة والام والحبيبة، فتذوب الملامح بين الانسان والارض في هالة من التقديس والعبادة. ثم جاءت مرحلة الخروج، لا من أرض الوطن فحسب، ولكن من أرض البشر إلى البحر. بمعنى التيه.
بعد الخروج من لبنان؟
- صحيح. وجدت للارض هشاشة وللبحر خفة. لأننا باللغة والاستعارة لا نستطيع أن نجد مكاناً للمكان. الجغرافيا في التاريخ أقوى من التاريخ في الجغرافيا. ولأنني لم أجد مكاني على الارض حاولت أن أجده في التاريخ. ليس التاريخ تعويضاً عن الجغرافيا المفقودة فحسب، لكنه محل لمراقبة الاشباح والذات والآخر في مسيرة انسانية أكثر تركيباً. التاريخ أيقظ عندي حاسة السخرية، فهكذا تخف أعباء الهم الوطني، وتجد الذات نفسها في رحلة كونية عبثية المصير. هل هذه مجرد حيلة فنية، مجرد استعارة ام هي اليأس مجسداً؟ ليس مهماً أن نجيب عن هذا السؤال. المهم انني وجدت في هذه العملية غنى أكثر، ونافذة للخروج من النسبي إلى المطلق. نافذة لاضع الوطني في الفضاء الانساني، ولكي لا تبقى فلسطين فلسطينية الشعر فحسب. لتجد شرعيتها الجمالية في فضاء انساني اوسع.
فلسطين ذريعة شعرية؟
يشعر من يقرأك بأن فلسطين تغدو اكثر فأكثر ذريعة، بمعنى أن الموضوع الفلسطيني يصير أقل فلسطينية.
- أعتقد ان فلسطين ليست وحدها ذريعة شعرية، كل موضوع ذريعة. هذا يتعلق بسؤالنا: أين يحيا الشعر، في موضوعه أم في استقلاله الجمالي عن هذا الموضوع؟ أعتقد أن الموضوع الفلسطيني، من حيث هو نداء حرية ومشروع حرية، قد يتحول إلى مقبرة شعرية إذا بقي محصوراً، في حرفيته وحدوده، بالأنا والآخر والحد الجغرافي والظرف الزمني. إذا لم يحمل المشروع الشعري تطلبه الخاص وغرضه الخاص، وهو في النهاية تحقيق الشعر... إذا لم نفهم أن الشاعر لا يبحث الاّ عن شعريته، تصبح فلسطين مقبرة الابداع الشعري. من هنا افترض أن أي موضوع ولو كان فلسطين المقدسة هو في النهاية ذريعة شعرية.
على الشاعر ان يحقق جماليته، واذا كانت هذه الجمالية كبيرة، أعطت مداها للوطن، واذا كانت ضيقة ضاق بها الوطن. الوطن لا ينحصر في حرفيته وموضوعه. فبالشعر وجمالية الشعر ينفتح على المدى الانساني، اذا استطاع الشاعر أن يحمله إليه. ولا يفعل الشاعر ذلك إلاّ حين يتمكن من خلق أسطورته الخاصة به. لا أعني بذلك الأسطورة المستعارة من أسطورة معروفة، لكن الاسطورة التي تتمثل في بناء القصيدة وشكلها وعالمها، وتحمل اللغة الشعرية من الواقع العيني إلى الواقع اللغوي، فالواقع الجمالي. مشروعي الشعري كله هنا، وغرضي كله السعي إلى الخلاص الجمالي اذا جاز التعبير.
هل تفكر هنا في الارض الموعودة لدى الاسرائيلي، فيما الشعر الفلسطيني يحول الارض إلى أسطورة، يحولها إلى استعارة تاريخية كاملة، استعارة اندلسية؟
- ثمة مفارقة هنا. مفارقة بين الأسطورة المتحققة في الوعي الاسرائيلي والاسطورة المحتاجة إلى تكوين في الوعي الفلسطيني. نحن وجدنا أنفسنا كأننا ما قبل التكوين، وكان على شاعرنا أن يكتب تكوينه على تكوين الآخر الاسطوري. ففلسطين مكتوبة، كتبها الآخر أسطورة لا تقبل نقداً، وتكويناً لا ريب فيه، تكويناً بات بين المصادر المعرفية الاساسية للبشر. كيف تستطيع أنت أن تكتب على هذا التكوين كتابة غير اسطورية. مشكلة الشعر الفلسطيني أنه يتحرك من دون مساعدين، من دون علماء تاريخ أو جغرافيا أو انتروبولوجيا. وكان على القصيدة الفلسطينية أن تجهز نفسها بكل العدة الانسانية لتدافع عن حقها في أن توجد، وليكون وجودها انسانياً بسيطاً.
ذلك يعني أن على الفلسطيني أن يمر بالاسطورة ليصل إلى المألوف. أنا شاعر، وأنا اولاً شاعر التفاصيل الانسانية المألوفة، لكنني كنت دائماً في سجال مع مبدأ التكوين. سجال أوقعني في البحث عن كتابة أسطورية للواقع اليومي أو الراهن الفلسطيني. من اليومي إلى الاسطوري هذه الدورة لا تتم الاّ بالعودة إلى أصلها، فهي من اليومي العادي إلى الاسطوري، فاليومي العادي البسيط مجدداً. حتى في قمة استعاراتي الاسطورية كان هاجسي الفعلي كتابة البسيط والمألوف والعادي، همّي ان أؤنسن النص الفلسطيني. ليست الاسطورة دائماً مضادّة للانسان. ليست دائماً كذلك. إنها هنا وجه لصراع ثقافي على كتابة المكان نفسه. نكتب نحن الشعراء الفلسطينيين على مسمع من سفر التكوين، على مسمع من الاسطورة التامة والنهائية والمكرسة. ربما وجدنا حلاً في العبور إلى الاسطورة من جماليات اليومي، والسؤال الانساني البسيط. هنا لا أرى تعارضاً. يمكن غنائياتنا ان تتحرك في فضاء أسطوري أو حتى ملحمي. فنحن الآن في محل خليط، في منطقة وسطى بين الواقعي والاسطوري. لأن وضعنا التاريخي، بل لأن وجودنا نفسه، يحملان هذه السمات.
في "أرى ما اريد" و"أحد عشر كوكباً" استعضت عن المكان بالتاريخ، اي ذهبت إلى مدار الاسطوري. لكنني في مجموعتي الاخيرة "لماذا تركت الحصان وحيداً" أعود إلى كل اغنياتي. الاّ أن هذه الأخيرة في تراكمها واتصالها ذات نبرة أسطورية. يعني أن الكتاب في مجموعه، إذا تمّت قراءته دفعة واحدة وبصورة متصلة، غناءٌ ملحمي أسطوري يحمل اليومي في تفاصيله.
نحن في حيرة لأننا في حال تاريخية نبدو فيها كأننا محرومون من الماضي، وأحد الدوافع الاستراتيجية للكتابة الاسطورية محاولة القاء القبض عى الماضي المرشح لان ينقطع تماماً عن اي صيرورة تاريخية. فنحن الآن حيال تصور نبدو فيه بلا ماض. كأن ماضينا بدأ منذ قليل، فيما الماضي ملك الآخر، وبعيداً عن الآخر لنا تاريخ معلق لا نستطيع أن نعاود الاتصال به. يقال لنا إن تاريخنا بدأ منذ سنة ويراد لنا ان نفهم ذاتنا وتاريخنا على هذا النحو، نحن في حبكة من المفارقات. أعتقد من ذلك ان الدفاع عن الماضي، دفاع عن حق انطلاق الحاضر، لنملك خطوة نحو المستقبل.
أي ماض؟
- أنا أملك هذه الارض بثقافاتها المتعددة، من الكنعانيين والعبرانيين والاغريق والرومان والفرس والفراعنة والعثمانيين إلى الانكليز والفرنسيين. أريد أن أعيش كل هذه الثقافات. حقّي أن أتمثل كل هذه الاصوات التي مرت فوق هذه الارض، فأنا لست طارئاً ولا عابراً.
ثمة ثلاث لحظات متداخلة للموضوع الفلسطيني في شعرك: لحظة غنائية رعوية. لحظة اشكالية ومثالها "سرحان سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا"، ولحظة تراجيدية، هي لحظة "أحد عشر كوكباً". لكن الموقف الذي يتجذر أكثر في نصّك هو الاتجاه اكثر فأكثر إلى التسليم النبيل، إلى اليأس الشجاع اذا شئت. القيمة الاخلاقية ترتفع في شعرك: الاشكال الاخلاقي عوض النضال.
- أقبل هذه النظرة التحليلية من خلال المستويات الثلاث. لكن السؤال مع ذلك كبير، والشعراء أكثر جرأة على الجواب عنه واكثر قدرة على الشرح.
اليأس أقوى
شعرك يزداد يأساً...
- من حق الشعر أن يعلن يأسه ولا يلام اعلامياً على هذا اليأس. أنا لا أعرف شعراً عظيماً وليد حالة انتصار. حتى في التراث الاغريقي، لا تهزنا مدائح النصر بقدر ما يهزنا التضامن مع الضحايا. للأسف لم نسمع الشعر الطروادي، ولم نقرأه. يقال إنه كتب على ألواح وفقد.
هل تتصوّر نفسك طروادياً حديثاً؟
- نعم هذا ما أريده. خياري أن أكون شاعراً طروادياً. أنا منحاز تماماً إلى الخاسرين، الخاسرين المحرومين من حق تسجيل خسارتهم، واعلان هذه الخسارة. أنا ميال إلى التعبير عن هذه الخسارة لا إلى التسليم.
هذا أكثر من اليأس!
- ممكن. لكن وقعه على عين القارىء وأذنه أخف. أنا بصدد مشروع شعري لا أكثر. من حق الشعر اعلان الهزيمة ومن حقه التسليم وتسجيل الخسارة. أنا فعلاً منحاز إلى طروادة لأنها الضحية، ولأن تربيتي وتكويني النفسي وتجربتي تجربة الضحية، وصراعي مع الآخر محوره من منا هو الأحقّ بموقع الضحية؟ كنت أمازح الآخرين قائلاً تعالوا نتبادل الادوار. أنتم ضحية منتصرة مدججة برؤوس نووية. أنا ضحية مغلوبة مدججة برؤس شعرية. أخشى أن يتفوقوا علينا شعرياً. هذه ستكون نهايتنا. لا أعرف اذا كان التفوق الشعري يعطينا شرعية وطنية. لكن هذا هو عملي على كل حال.
أنت تسكن شعرك...
- أسكن شعري. أختار أن أكون طروادياً. لأنني أحب أن أبقى ضحية. تمنيت مراراً أن أنتصر لأمتحن انسانيتي وقدرتي على التضامن مع الضحايا عندئذ. أتمنى، لكني محروم من أن امتحن انسانيتي بالتضامن مع ضحية تسببت على نحو ما في صنع مصيرها! اختار ان اكون شاعر طروادة لان طروادة لم ترو قصتها. نحن إلى الآن لم نروِ قصتنا رغم ركام الكتابات التي كتبناها. لم نرو قصتنا وهذا ما يفسر مقطعاً قلت فيه ان من يكتب حكايته يرث ارض الحكاية.
في "لماذا تركت الحصان وحيداً"؟
- نعم اريد أن أرث أو أوطد علاقتي بأرض الحكاية. ولا يعيبني الانحياز إلى الخاسر، لأنني اعتقد ان في الخسارة شاعرية أكبر.
أظن ان ثمة سوء تفاهم غير معلن بينك وبين قرائك. اذ يصعب عليهم ان يتصوروا مقدار ما في هذا الشعر من يأس، من قبول نبيل بالمصير، قبول شجاع ونبيل بالمصير.
- هناك مفارقة واحدة هي أنني في وهم المنتصر. أعني ان لغة اليأس أقوى شعرياً من لغة الامل. ففي اليأس فسحة لتأمل المصير، والاطلالة على الشاطىء الانساني بطريقة لا تتاح للمنتصر. ولأن اليأس هو الارض الشعرية والنفسية واللغوية التي تقرب الشاعر من الله ومن جوهر الاشياء ومن القول الشعري الاول. أعني انها ترده إلى وحدة شبه مطلقة على أرض الغربة، كأنها ترده إلى بداية الشعر. ترده إلى الشعر الاولي، - والشعر أي شعر مهما كان، حديثاً ام تقليدياً، يبقى مفتقراً إلى شيء، اذا لم يحمل صدى من اقصى عتبات الماضي. فالشعر اي شعر بحاجة دائماً إلى تلك النغمة التكميلية الاولى.
العودة إلى بداية الكلام سبب دائم للشعر؟
- رجوعاً إلى مسألة اليأس. من قوة اليأس انه يوحي بالقدرة على تأليف وجود انساني جديد. انه يعارض بقوة الخلق قوة التدمير التي يملكها المنتصر. في وسع اليأس أن يخلق من جديد. انه يجد الحطام اللازم لعملية الخلق هذه، حطام الاشياء الاولى والعناصر الاولى للتكوين. وهذه القوة، هذا الزخم يقلبان الادوار فيغدو اليأس أقوى. لماذا لا نتعب من الشعر؟ لماذا هو منيع؟ احب الشعر لانه يهبنا القوة ولو كانت وهمية. لماذا لا يغني السجان؟ السجين وحده هو الذي يغني. ولم نسمع في يوم بأن السجان يغني. يغني السجين لانه موجود أكثر مع نفسه فيما السجان موجود مع الآخر. مهنته ان يحفظ ويؤمن عزلة الآخر إلى درجة تجعله ينسى عزلته هو.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.