"أنسى وأغفر؟ كيف استطيع وانا ما زلت مبتلياً بالكوابيس والمرض بنتيجة التعذيب الوحشي الذي ألحق بي في ذلك السجن الحقير"؟ ضابط انكليزي أسر في سنغافورة وأجبر على العمل في بناء جسر بورما - سيام على نهر كواي الشهير لا يفهم لماذا اختارت كنيسة انكلترا الصلح عنواناً للذكرى الخمسين لانتصار الحلفاء في آب اغسطس 1945 في الشرق الأقصى، واليابانون لم يعتذروا بعد كأمة عما فعلوه. هؤلاء هبطوا الى أحط المستويات بدفعهم رجالاً جائعين ومرضى الى العمل وتلذذهم بعذابنا، قال، فكيف يمكن ان ينسى أحد وحشية كهذه؟ بعض الصحف الانكليزية اليمينية استعاد شهادات لأسرى ركزت على الفضائح التي ارتكبها اليابانيون "المتوحشون والبربريون" من تجويع وتعذيب وقتل. "ديلي ميل" نشرت صورة لأسيرين بريطانيين يبدوان فيها هيكلين عظميين وقدمت لمذكرات الضابط المذكور بالقول إن حياته "دمرت للأبد" بفعل الأسر وآثاره. فالأسرى عانوا، على هزالهم، من الديزنتاريا، والاسهال الحاد وربما تعرضوا لحرب جراثيم. معسكر سونكراي وحده ضم 1680 أسيراً تقلصوا الى 250 عندما تركوه، وكان سيئو الحظ يعلقون على شجرة حتى الموت أو يوضعون في قفص كالحيوانات أو تقطع رؤوسهم بالسيف. رئيس الوزراء الياباني السابق موريهيرو هوسيكاوا اعتذر اثناء زيارة جون ميجور لليابان في 1993 وعبّر عن الندم العميق لأن سلوك بلاده في الماضي "ألحق جروحاً عميقة بكثيرين بينهم الاسرى السابقون". لكن هؤلاء يريدون اعتذاراً خطياً وفعل ندامة تيمناً بألمانيا التي أقرت بمسؤوليتها عن ضحايا النازية وعوضت عنها مادياً. كان اتفاق سان فرنسيسكو في 1951 دفع لكل اسير 76 جنيهاً استرلينياً، وتخشى اليابان ان يفتح التعويض الحقيقي ملفاً قد يكلفها مئة بليون جنيه استرليني. طبيعي ان يشعر الأسرى ان حربهم لم تنته ما دام جلادوهم لم يعتذروا بوضوح، لكن المسألة قد لا تتعلق فقط بصعوبة الاعتذار لدى شعب أبي فخور بنفسه، بل بكونه مادياً في الدرجة الأولى. الموقف الرسمي يتجه الى نسيان السيئات التي ارتكبها مسؤولون آخرون في الشعب نفسه منذ نصف قرن، ويركز على المعاني التي تلائمه. الملكة اليزابيث قوبلت بصفير الاستهجان عندما زارت المانيا وطولبت بالاعتذار عن قصف بلادها "درسدن"، المدينة البعيدة الخالية من أي مراكز عسكرية أو حيوية، لكنها لم تفعل لأن الطيارين يعتبرون ابطالاً في بريطانيا والملكة الأم هي التي دشنت النصب الذي أقيم للغارة. عند الاحتفال بنهاية الحرب في اوروبا في ايار مايو الماضي ساوى هلموت كول بين عذاب الألمان واليهود وجنود الحلفاء خلال الحرب فقوبل بغضبة يهودية مما بدا تراجعاً عن الاعتذار الالماني السابق وركوع المستشار السابق فيلي برانت في معسكر اوشفيتز احتراماً لضحايا المحرقة هناك. موقف كول ينسجم مع ازدهار اليمين والقومية المتطرفة في المانيا، لكنه يعبر ايضاً عن سأم ألمان كثر من دفع ثمن فظائع النازية الى ما لا نهاية. مايك واين، أحد المسؤولين اليهود في بريطانيا، قال ان ستة ملايين يهودي قتلوا في المعسكرات "حقيقة يجب ألا تنسى أو تغفر". تصعب برمجة الذاكرة والعواطف، لكن يبدو ان هذا الموقف لن يتغير حتى أبد الآبدين. كل زوار اسرائيل الرسميين عليهم ان يمروا على نصب ضحايا المحرقة وان لم يكن لهم علاقة بها وان عانوا هم أنفسهم من الارهاب اليهودي أو الاسرائيلي. وزير الخارجية المصري تحفّظ على زيارة النصب في أول زيارة رسمية له الى اسرائيل فقامت ضجة وقحة لم تنته إلا بموافقته على زيارة القسم المخصص للأطفال في النصب. هل يزور المسؤولون الاسرائيليون في المقابل أنصاباً مفترضة للكونت برنادوت واللبنانيين والفلسطينيين والعرب الآخرين الذين أزهقت أرواحهم وسرقت أملاكهم وكسرت عظامهم، أم ان النسيان والغفران مبدأ يسري على الآخرين ولا يطبق على الشعب المختار الذي يسن المبادئ لنفسه بنفسه؟