ينقل المفكر الكويتي - رحمه الله - الدكتور أحمد البغدادي في كتابه القيم والمحظور"تجديد الفكر الديني"عن شوقي ضيف صاحب كتاب"الشعر والغناء في المدينةومكة لعصر بني أمية"العبارة التالية:"لم تعن الشام بالغناء في أول الأمر، واستمرت العراق لا تعنى به طوال هذا العصر إلا قليلاً. وأما الحجاز فقد غرقت فيه إلى أذنيها، وكانت المدينة أسبق مدن الحجاز إلى العناية بالغناء، فقد رأينا أنها أخذت تعنى به منذ عصر عثمان...". هذه العبارة لا يجوز تصنيفها ضمن الأخبار المكذوبة أو الإسرائيليات المدسوسة، وإنما هي حقيقة تاريخية مازال صداها يتردد في كتب الأخبار والتاريخ. أضف إلى ذلك، إن انتشار الغناء في المدينةومكة هو تعبير صادق عن التحولات الاجتماعية التي عاصرتها تلك المدينتان المقدستان نتيجة الثراء الفاحش جراء الفتوحات الإسلامية، وما استتبعها من تدفق هائل للثروات ومن استقطاب للعبيد والجواري من الأمصار المفتوحة. يطوف البغدادي بالقارئ عبر الدروب المنسية في ذاكرة المدينةومكة ليعرّف القارئ بأسماء لطالما أضاءت الليالي بأصواتها العذبة وألحانها الشجية. ويحدثنا الكتاب ? نقلاً عن شوقي ضيف ? عن عبدالله بن جعفر سيد بني هاشم الذي قلب داره إلى نزل للمغنين والمغنيات، وعن مالك بن أنس ? مؤسس المذهب المالكي ? الذي كان يغني أحياناً في بعض الأعراس. ومثل الإمام مالك، كان هناك رجل يقال له دحمان كثير الغناء والصلاة إلا أن شهادته كانت مقبولة، ولما احتج البعض لدى قاضي المدينة، ردّ عليهم بالقول: غفر الله لنا ولك، وأينا لا يتغنى؟! ويسرد البغدادي أسماء لمغنيات كثر طافت شهرتهن الآفاق، ولمع نجمهن في السماء، مثل: عزة الميلاء، وجميلة، وبرد الفؤاد، وقند، وحبابة، وسلامة، وغيرهن. ولم تكن مكة أقل ولعاً من المدينة بالغناء، فقد شاع الغناء فيها كما شاع بالمدينة. وعرفت مكة المرح والضحك، واشتهر فيها رجل مضحك يقال له الدارمي، وكان لا يطيب للنساء المكيّات إلا التنزه معه لتسليتهن وإضحاكهن! ويمضي البغدادي في كتابه ليضيء الزوايا المعتمة في تاريخ دولة الإسلام، فيحدثنا عن الموصلي الذي أقام في صدر الخلافة العباسية مدرسة لتعليم أصول الموسيقى لكلا الجنسين. ثم يعرج على كتاب"طوق الحمامة"لابن حزم الأندلسي، وهو كتاب في الحب وصوره، وكيفية وصول الحبيب بحبيبته، قبل اختراع الجوالات والإنترنت وحيل الغزل الإلكتروني! ماذا يريد البغدادي من سرد تلك الأسماء والحكايات؟ يريد أن يقول للمتشددين في هذا الزمان: إن الدنيا خلقت لتسع لجميع، المؤمن والكافر، الصالح والطالح، والبر والفاجر، ومن ثم لا يمكن لأي مجتمع يضم نفوساً إنسانية أن يحيا حياة ملائكية، لا رفث فيها ولا فسوق، والمجتمع الإسلامي مثل غيره من المجتمعات البشرية لم يشذ عن هذه القاعدة الكونية. إن قراءة الخلف للماضي يغلب عليها الطابع الانتقائي الذي يصب التاريخ وشخصياته في قوالب مثالية، بل ومفارقة للطبائع البشرية. إن أحد الأهداف من إحاطة الماضي بهالة من القداسة والمهابة تتمثل في بناء نموذج جدير بالاتباع والتقليد. ولكن، هل يمكن للخلف، مهما بلغ إعجابهم بالسلف، إحياء الماضي التليد وإعادة المجد القديم؟ الإجابة لا. توجد على الأقل ثلاثة أسباب تحول من دون ذلك. أولاً: الزمن يتحرك للأمام، وعقارب الزمن لا تعود للوراء، وهذا جزء من القوانين الحياتية والنواميس الكونية. ثانياً: أننا لا نعيش في عزلة عن الآخرين، بل أننا نعيش زمن العولمة، وما يتطلبه من ضرورة التأثر والتفاعل مع الغير. بكلمات أخرى، لا نملك في ظل هذه التوازنات السياسية والتشابكات الاقتصادية والتداخلات الثقافية أن نلغي الاعتبارات الخارجية التي نتأثر بها ونؤثر عليها كافة. وثالثاً: أن مطالبة الخلف بتتبع آثار السلف ينطوي على إلغاء للمساحات الإنسانية لدى السلف وإنكار للغرائز البشرية لدى الخلف. خلاصة الكلام: يجب علينا أن ننزل التاريخ من أجواز السماء إلى آماد الأرض، ومن مستوى الملائكة إلى مستوى البشر. بمعنى آخر، يجب علينا أن نعيد للتاريخ سماته البشرية بما فيها من خير وشر، ومن تقى وفجور، ومن قوة وضعف. فمنذ قرون بعيدة، تعايشت أشعار الخمريات إلى جوار الزهديات، والتجديد إلى جوار التقليد، والمسلم إلى جوار المسيحي واليهودي والمجوسي. لو لم نتذكر من ماضينا سوى التسامح الديني والتعايش الاجتماعي لكفانا هذا، ولكن...! [email protected]