كثيراً ما يكون الذهن المتحجر والتفكير السلبي عائقاً دون أي إنجاز، وقاتلاً لأي إقدام، وممزقاً لأي بذل، وحارقاً لأي أمل، فهو لا يعدو أن يكون فكراً خالياً من حب التميز، نافراً عن طبع التجديد والتطوير، وربما رأيته تواقاً إلى النقد، وسريعاً إلى الحقد، ومهما رأى المعروف أمامه فحتماً سيراه منكراً، والعكس صحيح. لقد قامت مملكتنا العظيمة بجهود جبارة في خدمة الحجاج والمعتمرين، ولا ينكر ذلك إلا مكابر خوان قد امتلأ قلبه بالحسد والحقد، أو قل أقله بالجهل والتبعية، فمشاريع الخدمة للحجاج تبقى ظاهرة لمن له عين، ولا أشك أن ثمة أعيناً قد حالت دونها الغشاوة بفعل الحاقدين مرة، وبفعل الخائنين مرة أخرى. كل عام في الحج أحسن من سابقه، والمستقبل يؤذن بإشراقة جميلة، وبعد العمل الجليل في الحج، من جسر تاريخي وقطار مشاعري، توجهت الأنظار صوب المسجد الحرام وهي ترى بعين واضحة عظمة التوسعة في المسعى، وكثرة الأدوار التي خففت كثيراً من الحرج على الحجاج، ولم يبق مشكلة أمام الحجاج والمعتمرين إلا تيسير عمل الطواف، فلقد بذلت الحكومة السعودية جهداً عظيماً لإزالة الزحام، فبداية نقلت حمامات زمزم إلى مكان آخر عن صحن المطاف، ووسعت السطح للطائفين، كما هيأت المصابيح في الدورين الأول والثاني. لا يزال الزحام موجوداً، ولا يزال الحجاج والمعتمرون في زيادة، ولو تأملنا أسباب الزحام غير الحسية لوجدنا التصرف البائس واللا عقلي من بعض الحجاج هو السبب المسؤول عن مشكلة الزحام، وله النصيب الأعظم في ذلك. ففي يوم من الأيام كان الخط الرخامي على الأرض المتوجه صوب الحجر له أثر كبير للزحام، وليس السبب وجود الخط إنما يكمن السبب في وقوف بعض الناس عليه، بل وقصد بعضهم للصلاة عليه ومدافعة الناس لأجله. عمدت الدولة لإزالة هذا الخط، فكان عملاً جليلاً رائعاً، خفف عن المسلمين كثيراً من الزحام، وأصبحت السنة أوضح وأكمل، ولا تزال مشكلة الزحام موجودة في أوقات المناسبات، كالحج وعمرة شهر رمضان المبارك، وبقي أن نفكر في أسباب هذا الزحام الرهيب، والمشكلة أن أكثر الناس لن يلتفت إلا إلى توسعة المطاف بالبناء والهدم وغيره. بقدر ما نحن بحاجة إلى هدم بعض البناء، نحن أيضاً بحاجة لهدم بعض العقول المتحجرة واستصلاحها، ولو تأملنا بصدق مشكلة الطواف لعلمنا أننا بحاجة إلى توسيع الأذهان ومراعاة المشاعر، أكثر من تفكيرنا بتوسيع المطاف، فعلى سبيل المثال أنت ترى ذلك الجمع الرهيب لحملة معينة يمسك بعضهم ببعض، ويعتدون على أي أحد يمشي أمامهم، أو من حولهم في تصرف لا مسؤول، وكلمات أقرب ما تكون منها إلى الغطرسة وحب التميز، ستجد آخرين صنعوا أنفسهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض، حتى أن الحاج لا يدري أين يذهب، وستجد آخرين موصولين بضيق الأفق، وبقصد تطبيق سنة الصلاة خلف مقام إبراهيم، تراهم يصنعون زحاماً رهيباً، ويضعون حواجز رهيبة ليصلوا فيها وأصحابهم، في تصرف أقرب ما يكون إلى الظلم والاستبداد، وآخرون تشبثوا بأوائل النصوص من دون النظر لمفهومها ومعانيها وشروحها، فتراهم يقفون عند الحجر مناوشين مصارعين، ولو فقهوا السنة لعلموا أن الإسلام بريء من هذه التصرفات، وأن صاحبها يُؤزر ولا يُؤجر، وبقدر ما نحن بحاجة لتوسيع المطاف فإنه لن يجدي نفعاً مع وجود هذا العقل المتحجر، والفكر المتعجرف، والطبع الأناني الذي يسعى لمصلحته وحسب. ما أحوجنا لاستصلاح هذه الأذهان واستنقاذها من غيابة الجهل التي صنعت الجرح للأمة، وبنت جسور الهم والغم والضيق، وما أحوجنا إلى محاولة وضع آلية ضخمة لتنبيه الناس واستصلاحهم، قبل أن يطؤوا أرض المسجد الحرام، وبعد أن يطؤوه، وذلك بالكلمة الطيبة، والأسلوب الأمثل، والإقناع الجاد. ناصر عبدالرحمن الحمد - الرياض [email protected]