يكفي أن تذكر موضوع الراتب أمام أيّ ربّ أسرة حتى تلمح في وجهه تغيّراً وتبدّلاً وتلوّناً، فهو من أكثر المواضيع إيلاماً لدى العامل والموظف البسيط. الراتب في معظم البلدان العربية مأساة ووجع يرافق الأب والأم يوماً بيوم على مدى شهر كامل. وأمام تزايد متطلبات الحياة وتنوّعها، ومع تقدم الأبناء في السنّ يتزايد القلق في شأن طرق توزيع الراتب الذي يتقلص باستمرار أمام ما تشهده الحياة من مفارقات عجيبة. ولعلّ عدداً مهماً من التوانسة الذين يقتصر مدخولهم الشهري على الراتب، يدخل في المنطقة الحمراء قبل منتصف الشهر ليجد نفسه في دوامة ديون لا تنتهي في مطلعَ الشهر التالي. "الحياة"وقفت على آراء عدد كبير من التوانسة ونظرتهم إلى الراتب، وكيف يتعاملون معه في ظل ظروف اقتصادية عالمية مقلقة بل ربما تشي بالأسوأ. رياض في العقد الخامس من عمره، ويعمل في قطاع النسيج. بدأ حديثه مطلقاً تنهيدة عميقة وقال:"كنّا خمسة إخوة وأربع أخوات، ولم يكن أبي رحمه الله يشتكي من عدم قدرته على إعالتنا، ولم نكن نمثّل عبئاً عليه أو هكذا كنّا نحسّ ونحن صغار". وزاد:"اليوم لي بنتان وولد وأعاني الأمرّين كل شهر كي أوفر الأهم قبل المهمّ، أتقاضى 650 ديناراً 450 دولاراً، وهو مبلغ لا يمكن أن يوفر حياة طيبة لعائلة من خمسة أفراد، خصوصاً أننا نعيش في الإيجار ولا نملك منزلاً خاصاً، مع مطلع كل شهر تبدأ المعاناة اليومية فلا يصل نصفه حتى تتقاطر مطالب العطار وبائع السمك وبائع الدجاج والجزار... إنها مأساة كل شهر". يشلّ التفكير ويعمل إلياس 35 سنة نادلاً في مقهى شعبي براتب 500 دينار نحو 350 دولاراً، ويسعى مع زوجته التي تكسب من عملها في أحد المصانع نحو 350 ديناراً لأن يوفرا حياة كريمة أمام غلاء أسعار المواد الغذائية وإيجار المنازل، فضلاً عن غلاء مصاريف التنقل للعمل والحضانة للبنت الصغرى 60 ديناراً شهريّاً والدراسة للإبن البكر. ويقول إلياس:"مرتادو المقهى الشعبي أناس بسطاء يمكنهم دفع ثمن ما يستهلكونه لا أكثر، وبالتالي لا أحصّل أيّ مبلغ إضافي. كما أن دوام العمل لا يسمح لي بالتفكير في البحث عن شغل إضافي... هذا إن وجد أصلاً". ويؤكد أنه يجد نفسه أحياناً عاجزاً عن تلبية حاجيات البيت في الأشهر التي تقضيها زوجته من دون عمل حين يقرر صاحب المصنع إغلاقه لمدة شهرين أو ثلاثة". قد يبدو أنّ موضوع الراتب من أكثر الأمور التي تشغل بال التونسي، بل قد يحدد ملامح الحياة الأسرية، اذ يتحدث كثر عن تأزم في العلاقات الأسرية بسبب هذا الغول الذي يسمّى الراتب الشهري، وتوضح سليمة أن سبب طلاقها من زوجها الأول كان مادياً في الأساس، إذ إنّ راتبه ضئيل ورفض البحث عن مورد رزق آخر يدعم به إمكانات العائلة. ولدى سؤالها عن دورها في كل هذا، أجابت في ثقة بالغة:"ليس من واجبي أن أعمل، يجب أن يعمل هو ويوفر ما نحتاجه، وخصوصاً بعد أن أصبح لدينا طفلان، لا أرضى أن يتربّيا في دور الحضانة، دوري أن أعتني بهما ودوره أن يوفّر المال الكافي لحياة كريمة... وهو ما فشل في تأمينه، وأمام تفاقم الديون وكثرة الخصام بيننا قررت الانفصال والابتعاد عنه مصطحبة طفليّ". تقيم سليمة حالياً"مع والدي ووالدتي في بيت العائلة ولم أندم أبداً. وتصلني منه شهرياً نفقتي ونفقة طفلينا من دون أن نتخاصم أو نتبادل التهم يوميّاً، أرى أن ذلك أفضل بكثير". وثمة حالات طلاق عدة كان سببها ضعف الراتب أو بالأحرى ضعف الموارد المالية للعائلة، والضحية دائماً هم الأبناء. وفي حديث مع سائق سيارة أجرة، أكد أنه لا يتقاضى راتباً شهرياً محدداً، بل هو رزق يوميّ لا يحدده مسبقاً، ولكن في مجمله لا يتجاوز 500 دولار، ويقول:"أمام كمّ المصاريف التي تنتظرني شهرياً لا يكاد المبلغ يكفي، لي بنت وولد يدرسان في الجامعة وبنت في صف الثانوية العامة. ولكم أن تتصوروا المصاريف التي يتطلبها كل هذا أمام غلاء المعيشة، ولكنني أحمد الله على أنني أملك منزلاً خاصاً وهو في حد ذاته مكسب عظيم". إنها صور ونماذج من معاناة التونسي مع الراتب في كل شهر، ولعلّ أجمل تعليق قول أحد المواطنين:"أتمنّى ألاّ يتمّ إلغاء العمل بالراتب أو إلغاء أول يوم في الشهر، كيلا أعيش المعاناة نفسها في إعادة جدولة ديوني".