وحدها المصادفة، جعلت بث قناة"الجزيرة"الفيلم التسجيلي"الدرس انتهى... لمّوا الكراريس"يتزامن مع بث فضائيات مصرية في شكل متكرر لمشهد الصدام عند الحدود المصرية مع قطاع غزة، ومقتل جندي مصري برصاص فلسطيني. وهو حدث انشغلت به لوقت غير قليل تلك الفضائيات، بتجييش العواطف واستثمارها في تسويغ إجراءات الأجهزة المصرية عند الحدود، مع ما يحيل إليه حادث مقتل الجندي من تأليب وتحشيد في هذا الشأن، وما قد يُحدثه من أحاسيس حانقة على الفلسطينيين في قطاع غزة... إذ عرضت الفضائيات المصرية صور والدي الجندي وهما يبكيانه، وسردت حكاية انتظاره الزواج بعد أيام، واستضافت محللين ومعلقين، مضوا كثيراً في تجنيد الجمهور المصري باتجاه شديد السلبية تجاه أهل القطاع. في هذه الأثناء بالضبط، كانت"الجزيرة"تبث الفيلم عن المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في نيسان إبريل 1970، حين قصفت بطائرات الفانتوم والنابالم مدرسة بحر البقر في محافظة الشرقية، فقضى 30 تلميذاً وأصيب نحو 50. ويربط الفيلم تلك الجريمة بالعدوان الصاروخي والمدفعي على مدرسة الفاخورة في مخيم جباليا التابعة لوكالة الغوث في كانون الثاني يناير 2009، حيث قضى 43 شهيداً، بينهم عدد كبير من التلاميذ. وينشغل الفيلم بتظهير الرابط العضوي والواضح بين الجريمتين اللتين يفصل بينهما نحو 40 عاماً. وإذ يختار الفيلم الذي أنجزته المخرجة المصرية مها شهبة، وكتب السيناريو له محمد حربي، اسم أغنية شادية"الدرس انتهى... لمّوا الكراريس"، وهي قصيدة لصلاح جاهين، من تلحين سيد مكاوي، فإنه يعمد إلى تقطيع فقراته بتسميتها على هيئة حروف يتم تهجئتها بطريقة تعليمها للتلاميذ في الصفوف الابتدائية. وفي هذا الأمر، يُبقي الفيلم على فكرته التي يحافظ على بساطتها وبداهتها، وهي أن المعتدي واحد على المدرستين المصرية والفلسطينية. ولذلك، هو عدو واحد للمصريين والفلسطينيين. وبسبب التشوش الذي بات يصيب البديهيات العربية، وما صار يشوب العلاقات بين الشعبين المصري والفلسطيني من اهتزاز، فإن عرض هذا الفيلم في هذه اللحظة بالذات، وتحديداً في يوم يرمي فيه فلسطينيون في غزة جنوداً مصريين بالحجارة، ويستخدم أحدهم الرصاص فيقتل مجنداً مصرياً، يصبح حدثاً له وظيفته في حماية الوجدان المشترك بين المصريين والفلسطينيين مما يصيبه حالياً من تشظيات يؤمل بأن تكون عارضة. وإذ يُشاهد في الفيلم تلاميذ مصريون من مدرسة بحر البقر يزورون تلاميذ فلسطينيين أصيبوا في العدوان على مدرستهم الفاخورة في مستشفى فلسطين الذي يعالجون فيه في القاهرة، فإن مشاعر خاصة تستيقظ في النفس، ترمي وراءَها كل خلط أو اضطراب يجرى في اللحظة الراهنة، ما قد يسوق إلى القول إن مهمة نبيلة في هذا الشأن يحسن أن تبادر إليها الفضائيات العربية... خصوصاً المصرية والفلسطينية، من قبيل التذكير بارتباط دماء الشعبين، وبأن الاعتداء العسكري على المدرسة الفلسطينية في مخيم جباليا قبل عام هو نفسه على مدرسة بحر البقر. وإذا كانت الجريمة الإسرائيلية في تلك المدرسة المصرية لا تزال في الذاكرة، فإن ما لم يكن شائعاً أن تلك المدرسة التي سويت بالأرض في حينه أعيد بناؤها، وحوفظ على انتظام التدريس فيها، وبقيت شاهداً على التوحش الإسرائيلي. وأظهر فيلم مها شهبة ومحمد حربي، وزينب عبدالرازق بحث وإعداد ومساعدة إخراج ومحب محسن مونتاج، أن المدرسة تضم قاعة لعرض صور من تلك الجريمة التي روى أحد الناجين منها بعض ذكرياته. وكان جهداً توثيقياً مهماً أن الفيلم زاوج بين صور أرشيفية وأخرى مستخدمة من فيلم"العمر لحظة"1978 عن رواية يوسف السباعي، مع لقاءات حية مع آباء وأمهات تلاميذ استشهدوا في الجريمة. وكان التقاطاً ذكياً التأشير من الأرشيف إلى شكوى رفعها تلاميذ مدرسة بحر البقر لمقتل زملائهم إلى زوجة الرئيس الأميركي في حينه ريتشارد نيكسون. وهو ما قام به تلاميذ جدد في المدرسة نفسها يرفعون الشكوى نفسها إلى زوجة الرئيس باراك أوباما، لمقتل زملائهم في مدرسة الفاخورة الفلسطينية. وقد يكون زائداً في الفيلم تشديده على التسلح الإسرائيلي من الولاياتالمتحدة، وعلى التزام الأخيرة المتواصل بأمن إسرائيل، غير أن اعتناء الفيلم بفكرة عدم تقادم الحق القانوني لضحايا جرائم الحرب، وحديثه عن إمكانية إحياء فكرة مقاضاة إسرائيل على جريمة بحر البقر، يحيلان إلى مسؤولية باقية تقع على الولاياتالمتحدة في هذا الخصوص، ومستمرة أيضاً في جريمة مدرسة الفاخورة. بساطة فكرة الفيلم وبداهتها لا تعنيان التهوين من الجهد التسجيلي فيه، والذي استخدمت فيه الوثيقة التلفزيونية مع الصحافية والسينمائية، ومن محطات متباعدة بين 1970 و2009. لكنّ الانتباه إلى ذلك كله قد لا يكون الأجدى، بالنظر إلى أن التنويه الأهم هو لبث هذا الفيلم في موعد خاص جداً في لحظة شديدة الرداءة بين أهل مصر وأهل فلسطين. نشر في العدد: 17087 ت.م: 2010-01-15 ص: 26 ط: الرياض