مقالات السيد كامران قره داغي أقلُّ ما يُقال فيها إنّها تنطوي على مديح وإعجاب بتركيا الحاليَّة، تحت إدارة حزب العدالة والتنمية، والتسويق للدور التركي في المنطقة، مع الغمز واللمز والطعن هنا وهناك، بصواب وجدوى نضال حزب العمال الكردستاني، وما يُشكِّله هذا النضال من تأزيم وتعكير ل"صفو"العلاقة الكرديَّة العراقيَّة - التركيَّة، حاضراً ومستقبلاً. والكاتب الكردي العراقي المعروف، والمقرَّب من الاتحاد الوطني الكردستاني، والمستشار الصحافي السابق للرئيس العراقي جلال طالباني، ذو وزن ومقام وحصافة سياسيَّة وكياسة صحافيَّة، ومن حقِّه أن يكون منسجماً من توجُّهه في السياسة الكرديَّة. لكنّ، عدم انسجامه مع توجُّهات العمال الكردستاني يدفعه لأن يغدو مدَّاح تركيا، وحزب عدالتها وتنميتها، والتغاضي أو التعامي على الكثير من الحقائق والوقائع الماثلة للعيان. وهذا ما يستوجب طرح الأسئلة، وتسجيل الملاحظات. فالمتأمِّل لكتابات بعض مثقفي أكراد العراق وسورية، يجد تلك النغمة إيَّاها، والحقُّ، إن هذا ليس حبَّاً بتركيا، وبالموضوعيَّة والعقلانيَّة والبراغماتيَّة...الخ، بقدر ما هو كره بالعمال الكردستاني!. وحين ننظر للجار العربي، يتبادر إلى الذهن سؤال: فكل المثقفين والساسة غير المنسجمين مع أداء"حزب الله"اللبناني، وحركة"حماس"الفلسطينيَّة، لم يدفعهم ذلك إلى كيل المدائح للحكومات الإسرائيليَّة، خلاف ما نشهده في الراهن الكردي!. النقد العربي ل"حزب الله"و"حماس"، لم يترافق مع مدح عربي لإسرائيل!. وحين نقرأ في مقالة قره داغي"تحالف تركي - كردي - أميركي؟ لمَ لا؟"ما يلي:"هل يسمح كرد العراق لهذا الحزب ان يقف عائقا امام تحالف ممكن مع تركيا وأميركا يخدم مصالحهم على المدى البعيد؟ أكيد أن آفاق مثل هذا التحالف تستحق من كرد العراق تفكيرا براغماتيا وجهدا حقيقيا لايجاد السبل الكفيلة بالوصول الى هذا الهدف"، لا يعود هنالك أيّ التباس حول التفكير والسلوك البراغماتي التي ينتهجه قره داغي حاليَّاً. في مقالٍ له، تحت عنوان"تلفزيون وتعليم بالكردية في تركيا التي تتخلى عن الكماليّة""الحياة"11/1/2009، كتب قره داغي، مادحاً إطلاق قناة تركيَّة، ناطقة بالكرديَّة تي آر تي 6، وقرار افتتاح قسم للغة الكرديَّة والأدب الكردي في جامعتين تركيتين بالقول:"إنه حدث تجوز مقارنته باعلان التخلي عن مفهوم"اسرائيل الكبرى"، يوم صادق برلمان الدولة العبرية على اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين في 1994. كذلك يمكن اعتبار البث التلفزيوني والسماح بالتعليم بالكردية بمثابة تخل عن مفهوم الكمالية كأيديولوجية سائدة في الجمهورية التركية". وعليه، هل جاء إطلاق تلك القناة ضمن اتفاق سلام بين تركيا وأكراد، حتَّى نقارنه باتفاق أوسلو، وتخلّي الدولة العبريَّة عن شعار"إسرائيل الكبرى"؟!. وهل كانت هذه القناة، وقسم اللغة الكرديَّة في جامعتين تركيّتين، نتيجة لتعديل دستوري، يقضي بالاعتراف بالشعب الكردي، وتضمين حقوقه السياسيَّة والثقافيَّة، حتّى نقول إن تركيا رمت"الكماليزم"وراء ظهرها؟!. ولعلّ المتابع الحصيف والحيادي يعي حجم الضغوط التي تعاني منها اللغة والثقافة الكرديَّتان، ومنع القانون التركي للأحرف الكرديَّة، ومئات الدعاوى المرفوعة بحقّ السياسيين والمثقفين الكرد لأنهم تكلَّموا أو كتبوا بلغتهم الأم؟!. وأعتقد أن الأستاذ قره داغي، المتابع للشأن التركي، سمع أردوغان مراراً وتكراراًَ، موجِّهاً كلامه للأكراد:"تركيا شعبٌ واحد، لغةٌ واحدة، علمٌ واحد...، إمَّا أن تحبّوا وتقبلوا وإمَّا أن ترحلوا"؟!. أمَّا إطلاق القناة، وقسم اللغة الكرديَّة، فقد لاقى نقداً ساخراً لاذعاً، من بعض الكتَّاب الديموقراطيين، لكونه لم يُسبق باعتراف دستوري بالشعب الكردي. في حين، تلقى هذه الخطوة، ولا شكّ أنها مهمَّة، كلّ هذا التهليل والتطبيل من قبل قره داغي وغيره، فيا للمفارقة الساخرة!؟. ويقول قره داغي في نهاية مقاله:"هنا نشير الى عجز التيار السياسي الكردي التركي الذي ما يزال أسيرا بيد المفاهيم الجامدة لحزب العمال الكردستاني وزعيمه المسجون عبدالله اوجلان الذي اعتبر في آخر"رسالة"له الى الشعب الكردي أن اردوغان مجرد"عميل للانكليز"!. هكذا فان حزب المجتمع الديموقراطي الكردي الذي له اكثر من 20 نائبا في البرلمان التركي لم ير في البث التلفزيوني أكثر من محاولة لحزب العدالة الحاكم"التملق"للناخبين في المناطق الكردية بغية كسب اصواتهم في الانتخابات المحلية القادمة. المفارقة تكمن في ان هذا التقويم الكردي، الذي ينم عن عجز في امتلاك رؤية سياسية، تتطابق تماما مع التقويم الذي قدمه التيار الكمالي ممثلا بحزب الشعب الجمهوري". أولاً: صحيح أن حزب المجتمع الديموقراطي انتقد إطلاق القناة التركيَّة، الناطقة بالكرديَّة، وتقاطع في مسألة النقد مع حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي، لكن، شتَّان بين النقدين!. فالحزب الكردي، انتقد الخطوة، وأرادها أن تكون نتيجة لاعتراف دستوري بالأكراد، وضمن مشروع حلّ متكامل للقضيَّة الكرديَّة بالسبل السلميَّة. في حين أن حزب الشعب الجمهوري، رفض إطلاق القناة، من حيث المبدأ، واعتبرها تحريضا على الانفصال، وإذكاء للنعرات العرقيَّة، وتهديدا لوحدة تركيا. فأين هذا النقد من ذاك؟!. ثانياً: الكثير من أكراد العراق، كوزير الثقافة في حكومة إقليم كردستان العراق الفيدرالي، الدكتور فلك الدين كاكائي انتقد هذه القناة، لأنها لم تكن مسبوقة باعتراف دستوري. فهل يعني هذا ان كاكائي"عاجز عن امتلاك رؤية سياسيَّة"، ومتطابق مع حزب الشعب الجمهوري؟!. ثالثاً: بما أن قره داغي ركَّز على رؤية هذه الخطوة في"سياقها التاريخي"، فليسمح لنا بالقول: إن من الأمانة، عدم اجتزاء الأقوال، وطرحها، خارج سياقها السياسي،"التاريخي". فحين انتقد أوجلان أردوغان، كان ذلك في سياق تحليل سياسي تاريخي لدور الانكليز في المنطقة، وتأثيرهم في العراق وبلاد الشام، وصولاً ليومنا هذا. وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أوجلان، يمكن طرح الأسئلة التالية: لماذا ظهر حزب العدالة والتنمية، بهذه القوّة، واكتسح المشهد السياسي التركي، في انتخابات 2002، كنموذج للإسلام السياسي المعتدل، بعد سنة من احداث 11 أيلول سبتمبر؟!. ولماذا اختيرت تركيا، الحليف الاستراتيجي لواشنطن وتل أبيب، لتكون حاضنة الإسلام السياسي المعتدل؟!. أليس الانسجام مع السياسات والمواقف والمصالح الأميركيَّة والغربيَّة مصدر اختيار أردوغان، الذي يحمل الجنسيَّة الأميركيَّة؟ ونعلم أن مؤسسات فتح الله غولان الإسلاميَّة، التي تدعم حزب العدالة والتنمية، تحظى بدعم أميركي. رابعاً: حكومات العراق، حتى عهد صدام حسين، كانت تعترف بالشعب الكردي دستوريَّاً، وقد منحتهم، ليس قناة تلفزيونيَّة وقسما للغة والأدب الكرديين، بل الحكم الذاتي، فلماذا أصرَّ قادة كردستان العراق على حمل السلاح وقتئذ، ولم يكونوا يتحلَّون بالراغماتيَّة والعقلانيَّة التي يتحدّث عنها قره داغي؟!. وفي العراق الفيدرالي، وما يتمتَّع به أكراده حاليَّاً، لماذا لا تندمج قوّات البشمركه نهائيَّاً في الجيش الوطني العراقي، ويصرّ قادة كردستان العراق على ان يكون للبشمركه، صيغة تحفظ لهم نوعاً من الاستقلاليَّة عن الجيش العراقي؟!. لماذا يصرّ أكراد العراق على ضمّ كركوك إلى الإقليم الكردي، ولا يعتبرون أن هذا الإصرار سيضع باقي مكتسبات كرد العراق على فوَّهة بركان؟!. حاصل القول: لا يليق ببعض مثقفي أكراد العراق، أن يكونوا عرَّابي السياسات التركيَّة بين الأكراد عموماً، وأكراد تركيا خصوصاً. وإذا كان هنالك براغماتيَّة وعقلانيَّة كرديَّة عراقيَّة، قابلة للتصدير لأكراد تركيا، فينبغي أن تطبَّق في العراق أولاً. * كاتب كردي.