لماذا نحن من دون خلق الله جميعاً؟ لماذا مساحة العالم العربي من دون مساحات كل الدنيا تسكنها الحزازات والصراعات وتذبحها الحروب وتوجع أعضاءها الخلافات؟ انظر إلى مساحات الأرض من القطب الشمالي حتى القطب الجنوبي، ومن اليابان حتى أميركا، هل تجد مساحة في حجم العالم العربي قد لا تكاد تخلو مساحة منها من الصراعات والمحن والجراحات والحروب؟ الإجابة بالتأكيد: لا. ثم انظر إلى العالم العربي، ستجد أنه ليس خالياً من الصراعات والمؤامرات والحروب ومنصرفاً إلى التنمية والبناء! للإجابة انظر من الغرب إلى الشرق، ستجد أنك بدأت من أقصى الغرب بالصحراء المغربية وانتهيت بالعراق. كأن المشكلات والصراعات والحروب أرادت أن تكون بين قوسين. ثم انظر من الشمال إلى الجنوب ستجد نفسك بدأت بلبنان وانتهيت بالصومال، فلا الشمال في أمان ولا الوسط ولا الجنوب. إن واقعنا محير بقدر ما هو مرير، ومرير بقدر ما هو مثير للدهشة. ونصيب العالم العربي من الأزمات والحروب والمشكلات هو النصيب الأكبر على مستوى العالم! ونعود الى السؤال الذي طرحناه في البداية: لماذا تسكن الحروب والصراعات العالم العربي من دون كل بقاع العالم؟ لو تحدثنا عن الأيدي الخارجية والأطماع العالمية لألقمونا حجراً، وقالوا إن نظرية المؤامرة من أوهام المرضى، وإنها مجرد ترهات وادعاءات لا تسندها حقيقة. والعجيب أن من يقول ذلك ليس أميركا أو الغرب فحسب، بل يقوله كثير من الأقلام العربية مدافعة عن أميركا المسكينة وأوروبا المظلومة. وإذا وافقنا هؤلاء الذين يبرِّئون أميركا والغرب مما يحدث في العالم العربي، فكيف نبرر الأمور؟ هل مناخ العالم العربي صالح لنمو المشكلات كما تصلح بعض المناخات لزراعة نوع ما من الفواكه أو النباتات؟ أم أن هناك جيناً معيناً في دماء العربي يجعله يدمن الصراعات والمؤامرات ويكوِّن عنده حساسية من الاستقرار وجو الأمان؟ أم أن حب الحروب والصراعات جبلة في العربي وفطرة فيه إنْ لم يجدها صنعها واكتوى بنيرانها هو وغيره؟ مهما تكن الإجابة ومهما يكن السبب، فإن الواقع مرير، وما يحدث مؤلم بل مخيف، ونتائجه وخيمة، ونهايته قعر هاوية لا قرار لها، ونيرانه ستقضي على الأخضر واليابس لا تفرق بين صالح وطالح، ولا تصيب الذين ظلموا خاصة، ولكنها تعم ولا تخص. ومن الأشياء الغريبة العجيبة أننا نحن أمة"الأجاويد"وأمة الإصلاح بين الناس، الأمة التي دعاها ربها للإصلاح بين كل فئتين تحاربتا أن تصلح بينهما فقال تعالى:"إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم". إذا حدث صراع بين فئتين في قطر ما انقسمنا قسمين، قسم يؤيد هذا وآخر يؤيد ذاك، وكل قسم يأتي بكل ما يستطيع من حطب ليلقيه على نار الفتنة فتزيد تأججاً واستعاراً. هذه والله حال محزنة، تجزع النفس وتملأ القلب غيظاً، والصدر قيحاً، حال أمتنا أكلت نيران الصراعات لحمها ودقت عظامها، وأحالت عمارها خراباً واستقرارها اضطراباً وأمنها خوفاً، ورغيد عيشها بؤساً وراحتها ضنكاً. لقد بلغنا بتشتتنا وتمزقنا وصراعاتنا أرذل ما يمكن أن تبلغه أمة ضعفاً وخوراً ويأساً وتخلفاً حتى بدا وكأنه مرض الموت الذي لا شفاء له، وكيف يشفى من لا يأخذ الدواء، بل من لا يبحث عنه أصلاً؟ انظر إلى أقطار عالمنا العربي، هل ترى إلا ناراً تشتعل أو وميض نار تحت الرماد ينفث فيه أعداؤنا أنفاسهم النتنة ليستعر وتعلو ألسنة لهبه؟ ان النتيجة الطبيعية لتشتتنا وتمزقنا وصراعاتنا كانت ما نراه من ضعف وتخلف وهوان على الناس. ولو لم نكن أمة حضارة وسؤدد ومجد وتاريخ مجيد لقلنا هكذا كان ماضينا فلا أسف. ولو لم يكن أجدادنا رجال المواقف وصناع المجد وسادة العالم لقلنا هكذا كان سلفنا فلا أسف. ولكن الأسف الذي يدمي القلوب أن ماضينا كان أنصع ماضٍ وحضارتنا أرقى حضارة، وأمتنا أقوى الأمم وأكثرها رقياً وتقدماً ثم نحن اليوم هكذا! ولكن الأسف الذي يحز في النفوس أن سلفنا كان خير سلف في خلقه وأمانته وصدقه، رجال جمعوا بين الدين والدنيا فسادوا الأمم وملكوا الأمم، ثم نحن اليوم هكذا! إنها مأساة بل مصيبة كبرى أن نتحول من أقوى الأمم إلى أضعفها ومن أعز الشعوب إلى أذلها ومن سادة متبوعين إلى تابعين، ومن أكثر الأمم تقدماً إلى أكثرها تخلفاً. كان فيء خيراتنا يصل إلى الناس في أطراف الأرض، فنطعم الجائع ونكسي العاري ونعطي المحتاج، فأصبح بعضنا اليوم يتسول الطعام وينتظر الهبات لنكون عالة على الناس. ولو كان ما نحن فيه كبوة جواد أصيل لوجدنا عزاء وقلنا لكل جواد كبوة، ولكن للأسف يبدو الأمر"سقوطاً"لا مجرد"كبوة". ونقول إنه"سقوط"لأننا لا نملك إرادة"النهوض"بل أن أمورنا تزداد سوءاً يوماً بعد يوم فنزداد تفرقاً وتشتتاً وتتعمق الصراعات عاماً بعد عام ونزداد ضعفاً يوماً بعد يوم، وكأننا المقصودون ب"في كل يوم ترذلون"، أين حكماء هذه الأمة ليدركوها برأي سديد يلم شعثها ويكشف عنها هذه الغمة؟ أين أصحاب الكلمة من زعماء الأمة وقوادها يجمعون الأمة على كلمة سواء؟ يوحدون شتاتها ويجمعون تفرقها ويقودون خطواتها إلى مدارج القوة والعز والمنع. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية