كثيرون ألحوا علي طيلة السنوات المنصرمة من عمر برنامج"خليك بالبيت"12 سنة بتحويل حلقاته التي تجاوزت الخمسمئة وخمسين حلقة الى كتاب موسوعي أو الى أجزاء كتاب يتضمن الحوارات التي أجريتها مع عمالقة العرب في شتى الميادين، فضلاً عن انطباعاتي الذاتية عن كل ضيف وبعض كواليس ما كان يجرى خارج البيت وكيفية تمكني من إقناع شخصيات نادرة الظهور التلفزيوني بالجلوس على كرسي"خليك بالبيت"ورواية سيرتها الذاتية أمام الملأ. ووصل الأمر ببعض الميسورين ان يعرض على إدارة تلفزيون"المستقبل"شراء كل حلقات البرنامج أياً كان الثمن المطلوب، وطبعاً كان الجواب الرفض لأن البرنامج ليس مطروحاً للبيع والشراء حتى لو كانت الغاية نبيلة مثل رغبة مشاهد متمكن بالاحتفاظ بلحظات تلفزيونية نادرة وبذكريات المبدعين العرب على اختلاف ميولهم وأهوائهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية والثقافية. فالبرنامج بقي كل تلك السنوات الطوال الحافلة بالأحداث والتحولات منبراً مفتوحاً لكل مبدع عربي في معزل عن توجهاته وطروحاته وانتماءاته، وهذا ما منحه صدقية عالية لدى الأوساط كافة، ولدى مختلف شرائح المشاهدين من المحيط الى الخليج وما وراءهما. اذاً، كنتُ دائماً أتلقى عروضاً بتحويل حلقات"خليك بالبيت"الى كتب، وكنتُ أصغي الى تلك العروض وأفكر فيها جيداً، ثم أتملص من المسألة لسبب وحيد لكنه جوهري. الحوار المتلفز الشفوي يختلف اختلافاً جذرياً عن الحوار المكتوب، وما يبدو أحياناً حاراً وممتعاً ومشوقاً على الشاشة يتحول بارداً وجافاً ومضجراً بين دفتي غلاف. ولطالما كنت أردد مع احترامي للزملاء الذين حولوا برامجهم كتباً ان مثل تلك الخطوة تستلزم تفرغاً كاملاً لإعادة صوغ الحوارات المتلفزة من جديد بما يتلاءم وتقنيات الكتابة وشروطها احتراماً للقارئ قبل سواه، وطبعاً لم تكن مسألة التفرغ متيسرة لإعادة صوغ خمسمئة وخمسين حواراً بينها حوارات مع أمثال: سعيد عقل، محمد حسين فضل الله، سليمان العيسى، الطيب صالح، كوليت خوري، سعدالله ونوس، سعد الدين بقدونس، محمد شامل، محمد سليمان، نجاح سلام، نور الهدى، لور دكاش، تحية كاريوكا، سميرة توفيق، فهد بلان، دلال الشمالي، مجدلا، لميا فغالي، علياء نمري، عبود عبد العال، فاتن حمامة، عادل إمام، محمد عبده، خالد الفيصل، بدر بن عبدالمحسن، عبرالرحمن بن مساعد، سعاد العبدالله، عبدالحسين عبدالرضا، عاطف سالم، هدى سلطان، مديحة يسري، ليلى فوزي، صباح، وديع الصافي، أدونيس، محمود درويش، أحمد الربعي، ليلى العثمان، نضال الأشقر، رضا كبريت، حليم بركات، الياس الديري، يوسف شاهين، دريد لحام، أحلام مستغانمي، سميح القاسم، منصور الرحباني، عبدالحليم كركلا، أحمد زكي، والمئات سواهم من أدباء وشعراء وممثلين وموسيقيين، فضلاً عن القادة والمناضلين والأسرى المحررين الذين - كما أسلفت الأسبوع الماضي - صار"خليك بالبيت"صوتاً لهم وناطقاً باسمهم. لم أرضَ تحويل البرنامج الى كتب، وكنت دائماً مطمئناً الى ان الكنز الانساني والثقافي الذي جمعته على مدى أكثر من عقد كامل من الزمن محفوظ في الأرشيف، وأنه لا بد وأن يأتي يوم يستعاد فيه هذا الكنز على الشاشة، خصوصاً أن العشرات من مبدعيه لم يظهروا بتاتاً في برنامج تلفزيوني آخر، وأن سيرهم الذاتية التي هي في الوقت نفسه سير جماعية لأزمنة وأمكنة وأجيال وأحداث وتحولات انسانية واجتماعية وثقافية، وأن الذاكرات والذكريات الشخصية المتواترة في الحلقات المتتالية ما هي الا ذاكرة الشعوب والمجتمعات العربية، ذاكرة الناس بالمعنى الجماعي للكلمة. ولا أخفي انني كنت فخوراً بهذا الانجاز الثقافي ? الاعلامي ولطالما رددت ان الجامعة التي تخرجت فيها اسمها جامعة"خليك بالبيت"! حين وقع عليّ خبر إحراق أرشيف"خليك بالبيت"من جملة ما أحرق في مبنى تلفزيون"المستقبل"، سرت قشعريرة باردة في بدني و"هطلت"دموع تلقائية حارقة وتذكرت مشهد إحراق الكتب في حقبات التاريخ المظلمة، ومرّ في ذاكرتي شريط البرنامج من أولى حلقاته مع المبدع سعدالله ونوس صاحب قولة"إننا محكومون بالأمل ولا يمكن لما يحدث الآن ان يكون نهاية التاريخ...". وعلقت في حنجرتي غصة كأنها جمرة وندمت ندماً لا يضاهى لأنني لم أحوّل البرنامج كتاباً يبقيه الى الأبد ذاكرة حية مضيئة بين أيدي الناس، لكن ندمي الأشد كان على أوطان تحرق ذاكرتها، تحرق ماضيها ومستقبلها وتروح ترقص حول النار رقصة بدائية تنذر بما ينتظر هذي البلاد التي لا تجيد الحفاظ على ماضيها ولا صناعة مستقبلها، ومعذرة إن كان في حبر هذه الكلمات الكثير من ملوحة الدمع!