الأرجح أن الصورة النمطية لمعظم الأمكنة العامة في عُمان وربما غيرها من البلدان تتضمن شاباً يحمل بيده هاتفاً نقالاً ليتحدث مع شخص ما، أو يقرأ رسالة نصية قصيرة أو يكتب رسالة خليوية أو يتفرج على صور وأشرطة خزّنها في هاتفه أو يسمع موسيقى حمّلها على تلك الأداة عينها. ولعل الصورة لم تعد صالحة كثيراً مع دخول الهاتف المحمول إلى بؤر جديدة في حياتنا، خصوصاً بعد أن تحوّل من أداة اتصال إلى مركز لقوى تتحكم في علاقتنا مع الحياة. ويخطر في البال أيضاً سؤال عن مدى صلاحية أن يُسمى ب"الهاتف"، بعدما خرج استعماله عن المساحة الضيقة للحديث مع من نريد. وكذلك بعدما استطاع اختزال مفردات التكنولوجيا من حولنا في علبة صغيرة. ولعله يحتفظ باسمه كنوع من التقليد أو بأثر من العادة، تماماً كما حدث مع مخترعات أخرى بقيت مسماة باسم أول منتج بدأت معرفة الناس به. يمسك الشاب، أو حتى الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة بعد، بتلك العلبة الصغيرة التي اصطلح على تسميتها هاتفاً محمولاً، مسمراً عينيه على مجريات لعبة الكترونية ضمن عشرات الألعاب المخبأة في الجهاز. ولعل الطفل لم يطق مزاحمة والده على الخليوي، ولا أن يستأذنه في كل مرة على أمل نيل رضى الأب والسماح له باللعب. أصبح للصبي هاتفه الخاص، خصوصاً أن أسعار الخليوي تتجه نزولاً بعكس كل الأشياء حولنا والتي تتمدّد أسعارها ارتفاعاً. ويقِلّ سعر خط الهاتف في عُمان عن ثلاثة دولارات أميركية، بعد أن تنافست شركات الاتصالات على جيوبنا، إلى حدّ أنها تكاد أن تمنحنا الهواتف المحمولة مجاناً لضمان أننا ننتمي إلى"معسكر"ذبذباتها وترداداتها وخدماتها. تفاجئنا الأخبار كل يوم بالمزيد من الأشياء التي يمكن لهاتفنا المحمول عملها. وبحسب تلك الأخبار، لم نعد نحتاج إلى أجهزة الكترونية عدّة، من الأنواع التي كانت تتوزع في السابق على أرجاء البيت. ومع التطور في الخليوي، ظهر عيب في تلك الأنواع بأنها تحمل نوعاً من"الاشتراكية"على رغم إنتاجها بيد العالم الرأسمالي وشركاته العملاقة. فمثلاً، جرت العادة على اقتناء جهاز تلفزيون لكل الأسرة، وأن يكون في المنزل جهاز فيديو وحيد"وكذلك الأمر بالنسبة الى الراديو والهاتف التقليدي والكومبيوتر وآلة التصوير. وفي أوقات سابقة، بدا من المبهج جداً أن تتكاثر هذه الأجهزة في المنزل، ربما لأنها تحمل دلالة على ثراء عيش للعائلة وبحبوحة. لكن الزمن التكنولوجي أعطى كل واحد منا قطعة من هذه الأجهزة، حتى في الأسر التي قد لا تعرف البحبوحة. وراهناً، تستوعب تلك العلبة الصغيرة في جيبك مجموعة من الأجهزة والأدوات، مثل دفتر الهواتف المتضمن مئات الأرقام والعناوين، والساعة والآلة الحاسبة والمنبّه. في وسع تلك العلبة العجيبة ان تعطينا تلك الأشياء بسهولة تامة ودقة موثوقة. وبلغ الأمر أن بعضنا لم يعد يحمل ساعة في معصمه، ولا يضع منبهاً قرب منامه"إذ يكفيه هاتفه ليجد فيه كل شيء. مُضافاً إليها متعة التواصل مع أصدقاء في أماكن شتى وحالما نريد، وصولاً الى ألعاب التسلية التي تقتل الوقت، والكاميرا التي تلتقط مرور الزمن على الوجوه والأشياء والأمكنة وغيرها. وفي هذا السياق، لم يعد يقلقنا عدم وجود آلة تصوير في جيبنا، إذا أدهشنا منظر أو وجه. يكفي أن تخرج العلبة السحرية من جيبك وتلتقط الصورة. ويمكن وضع ألبوم من الصور"وكذلك تستطيع توسيع ذاكرته. إضافة الى ذلك، نمتلك حق تصوير المشهد بالفيديو لتكون العلبة العجيبة كاميرا تلفزيونية أيضاً. أما إذا كنا في مهمة صحافية فإن سهولة عملية تصوير الحدث تضاف إليها فرصة تسجيل الصوت. ولا حاجة الى إثقال جيوبنا وأيدينا بآلات تسجيل وتصوير وغيرها. لم تعد المدن عسيرة الفهم بشوارعها وأمكنتها، إذ باتت تلك العلبة تحتوي خرائط رقمية للمدن، وكذلك تعينها الأقمار الاصطناعية لتحديد مواقع الأشخاص والأشياء بدقة بالغة يصبح معها موضوع التيه شيئاً من التراث. وتستقبل العلبة العجيبة أيضاً البث الفضائي. وتعطي لكل فرد من العائلة تلفزيونه، تماماً كما سبق أن أعطت لكل شخص هاتفه. ولنا أن نتخيل كيف سنتحوّل إلى كائنات تلفزيونية متنقلة، نتابع المسلسلات بانتظام، إذ لا عذر أن تفوتنا المشاهدة. لن نجلس في المقاهي نتحدث لبعضنا البعض، بل سننشغل دوماً بمتابعة المسلسلات والمباريات وغيرها من المواد المتلفزة التي تباعد بيننا كبشر. الأرجح أن ثورة الاتصالات تعملقت الى حد أنها تجاوزت هدفها الأول: التقريب بين الكائنات البشرية. وإذا كان الحاضر يبدو كأنه فوق الفهم لشدة تسارعه"فهل يمكننا تخيل ما سيأتي لاحقاً؟ السؤال صعب جداً، والأرجح أن الإجابة مستحيلة.