تتوقع مصادر عسكرية أميركية رفيعة المستوى ذات معرفة عميقة بمنطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال افريقيا أن يكون لبنان المحطة الأهم والأولى لهجرة المتطوعين لتنظيم"القاعدة"وأمثالها، ليس في أعقاب الانسحاب الأميركي من العراق، وإنما بدءاً من الآن. والسبب هو أن هذه القوى تبحث عن مقرات لها لشن معارك جديدة في حرب الإرهاب تستبق إما تصعيداً أميركياً ضدها داخل العراق، أو انسحاباً أميركياً من العراق، يتركها بلا مواجهة مباشرة مع"العدو". ولأن"العدو"زئبقي للولايات المتحدة، من ناحية التعريف، كما من ناحية مزاج القيادة الأميركية، ستتشعب الهجرة الجزئية من العراق في اتجاهات القرن الافريقي وشمال افريقيا، إنما محطتها الآتية، حسب تقدير العسكريين الكبار، هي لبنان. وبالتالي قد يفيد"حزب الله"أن يعطي المسألة بعض الاهتمام، لأن متطوعي"القاعدة"وأمثالها عازمون على الاستفادة من استراتيجية"حزب الله"وشريكه السوري، التي تنطلق من تعطيل الدولة اللبنانية وشلها واسقاطها على ايدي تجمع الميليشيات وتفعيلها في الساحة اللبنانية، وسيكلف ذلك"حزب الله"ومقاتليه ثمناً غالياً، إلى جانب تقديم لبنان فدية لطموحات سلطوية لهذا الحزب وطموحات الهيمنة لشريكيه، إيران وسورية. وقد يفيد الجارين السوري والإسرائيلي أن يفكرا بأبعد من لعبتهما في رقصة المصالح المتبادلة على حساب لبنان، فالذئب الصغير الذي ينميّانه في جيرتهما سيتحول وحشاً يرتد عليهما، لأنه سيخرج عما يعتقدان أنه تحت سيطرتهما المشتركة. لذلك ان هذه المرحلة من حروب الإرهاب والحروب بالوكالة وحروب الأولويات تتطلب مزيجاً من الطلاق الموقت والزواج المرحلي بين المسائل المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط، أي العراقوفلسطينولبنان. فوضع كل من هذه القضايا على طاولة الاهتمام الأميركي بحد ذاته قد تحول إلى معارك ضارية في موازين المسؤولية والأولوية، المحلية منها والاقليمية والدولية. ومن الضروري للأطراف المعنية أن تتفهم الأمور عندما يتبنى أحدها تكتيك"الشجرة قبل الغابة"طالما يدخل ذلك في خانة التكتيك حصراً وليس بديلاً عن استراتيجية اضاعة الغابة من أجل الشجرة. ولنتناول الأمور بأسمائها. إن قضية فلسطين محورية في السياسة والذهن والفكر والعاطفة العربية والإسلامية، إنما فلسطين ليست القضية الوحيدة للعالم العربي، ولا هي في هذا المنعطف"قضية"بالمعنى التقليدي الذي اعتاده العرب والمسلمون. وأحد أبرز الأسباب هو الانقسامات والحروب الفلسطينية - الفلسطينية. المسألة الفلسطينية سياسية، وهي محورية، ومن الضروري اعطاؤها أولوية لأنها بحد ذاتها فائقة الأهمية، ولأنها في العاطفة والذهن والفكر العربي الدليل على مدى الازدواجية الأميركية أو صدق الغايات الأميركية في الشرق الأوسط. إنها قضية شعب يرضخ تحت احتلال إسرائيلي مضن لعقود عدة بحماية أميركية للاحتلال. دول الاعتدال العربية حمّلت العاهل الأردني مجدداً رسالة ضرورة دفع الحل لقضية فلسطين الآن لينقلها الى الرئيس الأميركي، وهو ما فعله الملك عبدالله الثاني أثناء اجتماعه بالرئيس جورج دبليو بوش الثلثاء الماضي. المطلعون على أجواء تلك المحادثات قالوا إن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس وفريقها يعملون بشكل جدي كي يكون المؤتمر الدولي الذي أعلن عنه بوش أخيراً"ذا معنى ومغزى". أي أن المؤتمر المزمع عقده في تشرين الثاني نوفمبر في الولاياتالمتحدة سيلعب دوراً كبيراً إما في تعزيز وتفعيل المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذا كانت قد بدأت، أو في الدفع بها جدياً كي تبدأ. المهم أن هذه المفاوضات ستكون حول الوضع النهائي، حسب تقدير هؤلاء المطلعين، وهذا في حد ذاته انجاز وتطور جديدان، لأن الجواب أتى في السابق على نسق أن الظروف غير ناضجة لمفاوضات كهذه، أو أن على الفلسطينيين تقديم شهادة حسن السلوك كشرط مسبق للمفاوضات. فرصة عقد المؤتمر، بدعوة من بوش وبرئاسة رايس، يشكل فرصة لدول الاعتدال، السعودية ومصر والإمارات والأردن وغيرها، للتقدم بخطة عمل للدفع نحو مؤتمر دولي يعجّل بمفاوضات فلسطينية - إسرائيلية حول الوضع النهائي، بتواريخ وبمراحل خطة تضع على الفلسطينيين مسؤولية الصدقية بحيث تقطع السلطة الفلسطينية أشواطاً كبيرة وسريعة ومتماسكة بالتزامات وبتنفيذ في بناء المؤسسات القادرة على الأمن والحكم. خطة تبلّغ إسرائيل الجدية في الاستعداد لدعم التفاوض نحو حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي والتعايش والتطبيع العربي والإسلامي المعتدل معها، وتبلغها في الوقت ذاته أن لا مزاج ولا استعداد ولا رغبة لدى صفوف الاعتدال بتقبل المماطلة والتسويف والتهرب الإسرائيلي من السلام واستحقاقاته. جزء من الرسالة التي حملها العاهل الأردني الى الرئيس الأميركي تناولت توقعات صفوف الاعتدال من السياسات الأميركية، ووجود فرصة يجب عدم اضاعتها لأن الاعتدال العربي والإسلامي حليف مهم في المعركة ضد التطرف والحرب على الإرهاب. فلا أحد سيتطوع للجلوس مع إسرائيل في مؤتمر أو في لقاء ما دامت إسرائيل لم تتقدم سوى بالاجراءات التجميلية وبالخطوات الناقصة على نسق اطلاق حفنة دولارات من عائدات الضرائب الفلسطينية للسلطة الفلسطينية أو اطلاق سراح حفنة من الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. ما سمعه الرئيس الأميركي وطاقمه هو أن المناخ والمزاج في المنطقة لا يتحملان عقد مؤتمر لمجرد عقده، وأن عدم انتهاز الفرصة للاستفادة الآن مما تقدمه دول الاعتدال سيضيّع فرصة نادرة على هذه الإدارة والولاياتالمتحدة كما على منطقة الشرق الأوسط أجمع. بكلام آخر، على الرئيس الأميركي أن يعي بكل ذهنه وفكره أن الدفع بإسرائيل إلى معالجة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي إنما هو أساسي من أجل المصلحة الأميركية العليا في منطقة الشرق الأوسط، وجزء لا يتجزأ من الحرب التي يقول الرئيس الأميركي إنه يخوضها ضد التطرف والإرهاب. معالجة القضية الفلسطينية وحل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي لن يضعا حداً لكامل المعركة مع"القاعدة"وأمثالها، لكنهما بالتأكيد سيزيلان جزءاً رئيسياً من تحفظ الرأي العام العربي والمسلم عن النيات الأميركية، ويؤديان بهذا الشطر من الرأي العام إلى التحالف الضروري مع القوى التي تتصدى لقوى التدمير والإرهاب. لذلك، عندما تشدد قيادات دول الاعتدال على محورية القضية الفلسطينية لدى الرئيس الأميركي، فهي لا تتخلى عن العراق ولا تعمل ضده، وإنما من أجله. فالانصباب الأميركي القاطع على العراق له تيار فاعل وقوي داخل الإدارة الأميركية لأسباب سياسية، إذ أن هذا التيار لا يريد الضغط على إسرائيل لمعالجة القضية الفلسطينية. في المقابل، ان التيار الذي يدعو لايلاء فلسطين الاهتمام لأنه يرى ارتباطاً بين ما يجري في العراقوفلسطينولبنان، إنما يدفع نحو دور أميركي فاعل في موضوعي فلسطينولبنان بعيداً عن الهوس القاطع بالعراق وبالإرهاب بصورة تعمي عن سياسات ضرورية لمصلحة العراق. هذا، بالطبع، لا ينفي حق العراق وحكومته ومسؤوليته عن الاستمرار في وضع العراق في طليعة الأولويات الأميركية والدولية، والاقليمية اسلامياً وشرق أوسطياً. فلوزير الخارجية، هوشيار زيباري، كل الحق في تركيزه، مثلاً، على الدفع نحو حوار اميركي - ايراني أو اميركي - سوري في شأن العراق بغض النظر ان كان ذلك الحوار يؤثر سلباً على لبنان أو لا يخدم فلسطين. فالأولوية، عنده، كما يجب أن تكون: هي لانعكاس مثل هذا الحوار على العراق وافرازاته على المعاناة العراقية الرهيبة. انه لا يضع العراق رهينة ايجاد الحلول لفلسطين أو للبنان، وله كل الحق. فهو وزير خارجية بلاده، وحتى ولو كانت له آراء حول ترابط أو افتراق هذه القضايا، فإنه يقوم بواجبه كوزير خارجية العراق ويركز على متطلبات هذه الواجبات. السفير اللبناني الجديد لدى الأممالمتحدة، نواف سلام، يرى العكس صحيحاً، ولذلك يبلّغ من يسأله كيف يمكن الحفاظ على ما تم تقديمه الى لبنان بقوله انه يجب معالجة القضية الفلسطينية والاعتراف بالأخطاء الاميركية في العراق. وهو مخطئ تماماً في ديبلوماسيته الاكاديمية هذه. مخطئ لأن لبنان يتطلب في هذا المنعطف ان يحتل مرتبة الأولوية القاطعة في الأممالمتحدة، ليس عند سفيره فحسب وانما عند جميع سفراء الدول المعتمدين لدى المنظمة الدولية. فالأممالمتحدة عاجزة، في هذا المنعطف، عن تبني موضوع العراق ووراثة عراق محطم ومشرذم ما بعد احتلال عارضته وعمل عسكري أميركي اعتبرته غير شرعي. والدور الذي يمكن للأمم المتحدة أن تلعبه في النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي يبقى ثانوياً، في هذا المنعطف، بسبب مركزية الدور الأميركي في ايجاد حل لهذا النزاع. لبنان أمر آخر. انه مشروع دولي تلعب فيه الأممالمتحدة الدور الأكبر اذ انها صاحبة قرارات تاريخية بشأنه، وصاحبة محكمة دولية لمعاقبة من تورطوا في اغتيالات سياسية فيه. انها المنظمة المكلفة بايجاد آليات لضبط حدوده كي لا تتسرب الأسلحة الى الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية بقرار سوري أو ايراني، وهي دائرة حفظ السلام التي لها قوات دولية معززة للفصل في جنوبه على حدوده مع اسرائيل. تعزيز وتقوية هذه الآليات والدفع نحو انشاء المحكمة الدولية بأكثر عجلة ممكنة هي الأجوبة التي ينتظر من السفير اللبناني لدى الأممالمتحدة ان يتقدم بها وليس أجوبة تمييع ملف لبنان وتحويله ملحقاً يقبع في انتظار الحل الفلسطيني والاعتراف بالفشل العراقي. ان لبنان ينطوي على النجاح الممكن الوحيد، ربما، لكل من الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة، وليس فقط كمشروع ونموذج للديموقراطية من الداخل بدعم من الخارج وانما ايضاً كساحة مصيرية في النزاع بين الدولة والميليشيات، بين الاعتدال والتطرف، بين البناء والتخريب. ومهمة كل من يمثل لبنان في المحافل الدولية ان يشير الى المخاطر المحدقة بهذا البلد عبر جيرانه على الحدود وعبر المتطوعين الآتين اليه من العراق بتسهيلات من شقيق الجارين العراقيواللبناني. انها حرب سياسية وحرب ديبلوماسية وليست حرباً أكاديمية يحسن فيها القاء المحاضرات والتصرف بفوقية. الزعيم المحلي لهذه الحرب،"حزب الله"، يعمل بنمطية متماسكة من أجل تعطيل وشل الدولة كي لا يلام على افتعال حرب عسكرية أو أهلية تطيح بالدولة. انه يتسلم سلاحه من ايران عبر سورية ويتباهى بصواريخه ليبلغ كل معني أن قرار الحرب بيده وأن عدم تفعيل ذلك الخيار يقابله تفعيل خيارات قمع الدولة وتقزيمها. الرسالة هي ان"حزب الله"يمتلك مفاتيح منع البرلمان اللبناني من العودة الى العمل وإبقائه مقفلاً بقرار من حليفه، رئيس مجلس النواب نبيه بري... وأنه قادر على شل رئاسة الجمهورية بإبقائه فيها حليفه الآخر، اميل لحود الذي يؤدي معه الولاء التام لسورية. وأمام الرفض الدولي السماح لهذا الحزب بإطاحة الحكومة الشرعية المنتخبة التي يرأسها فؤاد السنيورة، ما على الأمين العام ل"حزب الله"، حسن نصرالله، سوى التعطيل من الداخل لمؤسسات الحكم الديموقراطية في البلاد. "حماس"حاولت اطاحة السلطة الفلسطينية بانقلاب عسكري."حزب الله"يعمل حالياً على اطاحة الحكومة اللبنانية بعصيان وتعطيل للدولة مع الاحتفاظ بورقة افتعال الحروب، إذا جاءت الأوامر أو المصادقة من حلفاء الخارج في دمشقوطهران. انما كلاهما،"حماس"و"حزب الله"، في صدد التطويق، شأنهما شأن حليفيهما في طهرانودمشق، كل لظروفه الخاصة. القاسم المشترك في التطويق الآتي لربما سيكون ذلك الشريك الموقت لهم المتمثل في المتطوعين في حرب العراق من"القاعدة"ومشتقاتها والذي سيرتد على الجهات الأربع. فإلى جانب المحكمة الدولية، هناك خروقات الحظر على التسلح الذي فرضه القرار 1701 بموجب الفصل السابع من الميثاق، وهي ستأتي بمفاجآت غير سارة للذين انتهكوا هذا القرار. والطوق ذاته يطال أيضاً فصائل فلسطينية وإرهابية متعددة الجنسية تحارب جيشاً لبنانياً شبابه مصدر فخر واعتزاز. فقد تأتي اغتيالات أخرى وقد تأخذ القوى العازمة على تفكيك الدولة اللبنانية الى أنواع جديدة من التخريب والتصعيد والحروب عبر المرتزقة والميليشيات وفتح الحدود امام"القاعدة"الى لبنان. وقد تعتقد قوى الاطاحة بالسلطة الفلسطينية وبخيار بناء المؤسسات ان تفشي"القاعدة"في صفوفها يخدمها أيضاً في التخريب والتخويف على حساب المعاناة والأرواح الفلسطينية. وقد تظن سلطات الاحتلال الاسرائيلي انها قادرة على التسويف والتظاهر بالاستعداد للسلام من دون أن تقدم حتى عربوناً يثبت الجدية. القاسم المشترك بين كل هذه القوى أنها تحفر لنفسها قبراً من زجاج سيحطمه فوقها"شريك"الأمر الواقع لهذه السياسات الفاشلة، سواء كان اسمه"القاعدة"أو أحد مشتقاتها. * تغيب راغدة درغام في اجازتها السنوية اعتباراً من الاسبوع المقبل