ظل ارتياد المقهى في مصر لعقود طويلة أسلوب حياة، بل ويكاد يرقى الى كونه أولوية من أولويات الملايين على مدى العصور، وإن كانت الغالبية العظمى من هذه الملايين إلى عهد قريب من الرجال الذين تركوا مرحلة الشباب. لكن اليوم تغير المفهوم في شكل سريع ليصبح ظاهرة شبابية بحتة، وذلك لأسباب كثيرة بعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي. والمثير في مقاهي القاهرة هو انقسامها إلى قسمين أساسيين يقف كل منهما على طرف نقيض من الآخر، وهو ما يبدو واضحاً جلياً من اسم المقهى، وموقعه الجغرافي، وقائمة المشروبات المتاحة، والمظهر العام للرواد وجنسهم. مقهى"العوادلي"في حي السيدة زينب الشعبي في جنوبالقاهرة عبارة عن محل صغير لا تزيد مساحته على اربعة أمتار مربعة. رائحة المشروبات المغلية تنبعث من المكان وإن كان اختلاطها يجعل التمييز بينها أمراً صعباً. غالبية الرواد شباب، وإن كانت هذه الفئة العمرية تزيد اتساعاً وليونة في اثناء السنة الدراسية لتحوي عشرات المراهقين بل والأطفال من تلامذة المرحلة الاعدادية. مقهى"العوادلي"لا يمكن أن يطلق عليه سوى اسم"قهوة"، فالمطبخ بدائي يقتصر على رف رخامي يقف خلفه"عليوة"القهوجي الذي يجهز المشروب الساخن ويناوله في أكواب صغيرة الى حسن"صبي القهوجي"الذي يوزعه بدوره على الرواد. محمد ورفاقه من رواد"العوادلي"منذ كانوا في المرحلة الإعدادية، وهم حالياً في منتصف العشرينات من العمر، منهم من تخرج وأخذ من الحظ وظيفة، وإن كانت هامشية، ومنهم من ينتظر الفرج. والى حين حدوث ذلك، يتمركز الجميع في المقهى. يقول محمد إن الشاي"الكشري"الذي يتناوله في المقهى لم يتغير منذ كان مراهقاً. ويضيف ضاحكاً:"لا أعتقد أن الشاي الذي نشربه هنا له ماركة معينة، لكنه شاي، مقطوع قلبه من الغليان ومعمي سكر، وله مفعول السحر في الدماغ. بصراحة أحياناً أشك في أنه شاي أصلاً". ولكن صاحب المقهى لا يوافق محمد تماماً في رأيه، إذ يقول "لدي أفضل تحويجة بن في المنطقة والمضاف اليها الحبهان المعتبر وأغلب شريبة القهوة هنا هم من أرباب المعاشات الذين يأتون الى المقهى في ساعات الصباح الأولى. ولكن يأتي بعض الشباب حاملاً معه هذا الذي يسمونه نسكافيه لنحضره له"ويرفض صاحب المقهى الاعتراف بأي نوع غربي من القهوة إلا"التركي". وعلى أصوات طقطقة"زهر"الطاولة وأصابع الدومينو يتسامر شباب المقهى بأصوات عالية تختلط بصوت جهاز التلفزيون المتهالك المثبت أعلى رأس صاحب المقهى، وذلك الى ساعات الصباح الأولى فتنطلق القلة العاملة الى بيوتها لتلحق بساعتين او ثلاث من النوم قبل التوجه إلى أعمالها. أما القاعدة العريضة من العاطلين عن العمل والطلاب فتستمتع بنوم عميق حتى منتصف النهار. المشهد داخل مقهى"العوادلي"بصفة شبه يومية هو ذاته الذي تدور وقائعه في داخل"كوفي شوبس"وپ"كافيهات"الأحياء الراقية التي انتشرت انشاراً غير مسبوق في السنوات القليلة الماضية، ومنها ما يتبع سلاسل مقاه عالمية متخصصة في تقديم المشروبات القائمة على البن، ومنها ما هو فردي ولكن ينافس البقية في الأناقة والتقليعات ذات الطابع الغربي. وما ان تفتح الباب في تلك المقاهي حتى تباغتك رائحة ذكية تتسلل الى كل الحواس. انها رائحة البن الذي يبدو بالفعل ذا نكهة ورائحة غير معهودتين. فهنا لا رائحة غير عبق القهوة المميزة ولا شيء سواها، على رغم أن الأكواب المتناثرة على الطاولات توحي بمحتويات مختلفة ومتباينة. يأخذ النادل الأنيق ذو الصوت المخفوض طلبات الشلة:"كافيه لاتيه"لجايدا، وپ"كافيه موكا"لشاهي، وپ"دوبل إسبريسو"لباسم، أما فادي فقد اختار ال"آيريش كوفي"مع الكريمة المخفوقة والبندق المحمص. وتنغمس الشلة في حديث مطعم بكلمات انكليزية وأخرى فرنسية، فيما صوت ماكينة الاسبرسو ينبئ بقرب وصول الطلبات، ويأتي النادل حاملاً صينيته بزهو بالغ وهي المحملة بأكواب طويلة ورشيقة تختلف كلياً عن أكواب عليوة القصيرة في مقهى"العوادلي". شلة"جايدا"تعتبر ارتياد المقهى جزءاً لا يتجزأ من البرنامج اليومي، فثلاثة من اعضاء الشلة يعملون في اكبر شركات الكومبيوتر والمحمول في مصر، والرابع ما زال يدرس في احدى الجامعات الاجنبية الحديثة. المقهى يخاطب كل الأذواق الشبابية، فهناك ركن خارجي صغير خلف المقهى للمدخنين، أما بقية أرجائه فمخصصة لغير المدخنين. وبدلاً من شاشة تلفزيون"العوادلي"الأثرية هناك عدد من شاشات العرض الرقيقة المثبتة على الجدران والتي تبث أغاني وبرامج ترفيهية. ويقول النادل محمود:"إن جودة القهوة والجو العام الشبابي الأنيق اللذين يقدمهما المقهى هما عاملا الجذب الرئيسي، إضافة الى إمكان الاتصال بشبكة الانترنت، وإنعدام العيون المتلصصة على الآخرين".