ثمة ظاهرتان لافتتان اليوم ما كان لهما أن تعرفا هذا الوضوح والانتشار لولا استمرار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في العراق وتصاعد الصراعات بعد ثلاث سنوات من إطاحة صدام حسين ولولا تفاقم الأزمة السياسية والتنازع المقلق وغير المبرر على المناصب الوزارية وعلى شخص رئيس الحكومة، ووصول البلاد الى حافة حرب أهلية لن تبقي في حال اندلاعها ولن تذر. الظاهرة الأولى، انتقال أنصار الاستبداد والقوى المتضررة من التغيير في العراق من موقع الدفاع الى الهجوم على قاعدة أفضلية الدعوة الى الاستقرار وأولوية الأمن كمهمة لا تعلوها مهمة، في مواجهة مأساة القتل اليومي والتنكيل الطائفي وفشل المشروع الأميركي في بناء عراق ديموقراطي يكون مثلاً يحتذى في المنطقة. هو أمر حسن أن يعترف الفكر القومي العربي أخيراً بهذه الحقيقة. ومن المفيد للجميع الاقتراب من قراءة ملموسة لدور واشنطن وسياساتها في العراق لتمكين الناس من فهم الواقع والتعامل معه بدقة. فأن يفرك بعض المفكرين القوميين أياديهم فرحاً لفشل الجهد الأميركي في دعم التنمية السياسية نتيجة تأزم الوضع الأمني وتطور الصراعات الطائفية، ما هو إلا اعتراف ضمني، إن لم نقل صريح، بأن ثمة ما هو ديموقراطي تسعى إليه أميركا في العراق بخلاف ادعاءاتهم السابقة ودعايات نمطية غرضها التحريض السطحي ذهبت الى القول ان الراية الديموقراطية التي ترفعها أميركا هي كذبة كبيرة وانها حضرت الى العراق ليس من أجل تعميم نموذجها الليبرالي بل من أجل تقسيم العراق وتفكيكه وسرقة نفطه ليس إلا!! إن تباين الاجتهادات في فهم ماهية أهداف أميركا في حربها على العراق وغرضها من احتلاله، هو أحد أهم قضايا الخلاف بين المهتمين بالشأن العراقي على الرغم من اتفاق معظمهم على دافع المصلحة وأغراض الهيمنة في السياسة الأميركية وازدواجية معاييرها، ما يعني أن الأميركيين متضررون في حال فشل بناء دولة ديموقراطية في العراق، لكنهم ليسوا أكثر الأطراف تضرراً. فتفاقم المأزق العراقي سوف يزيد بلا شك عمق المأزق الأميركي والذي ظهرت بعض تجلياته باعترافات متكررة من الرئيس بوش ووزيرة خارجيته بأن ثمة أخطاء ارتكبت هناك. لكن لنسلم بأن إدارة البيت الأبيض لن تعجز عن إيجاد فرصة مناسبة للخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر والإرباكات أو بنصر باهت كما يحلو لبعض المتشائمين تسميته. فماذا يبقى عندئذٍ سوى مأزق العراقيين وأوضاع مزرية في المنطقة ككل سوف تدفع من جديد نحو المجهول. ففشل العراقيين في بناء متحدهم الديموقراطي يعني أول ما يعني إعطاء بعض الروح لأنظمة استبداد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتعزيز حضور أسلوب القوة والعنف في إدارة حياتنا السياسية من خلال الإصرار على تغييب دور الناس في تقرير مصيرهم ورسم مستقبلهم. يبدو أن هامش التفاؤل يضيق يوماً بعد يوم، ليس لأن الاحتلال الأميركي ارتكب بالفعل أخطاء كبيرة ومتواترة على أرض العراق، وليس بسبب دور المتطرفين"الجهاديين"الأجانب والعرب الذين عاثوا فساداً وتدميراً عندما وجدوا في العراق ساحة مفتوحة لمنازلة عدوهم الكافر، بل بسبب حضور عوامل خارجية لا تزال مؤثرة وفاعلة وربما مقررة في مصير هذا البلد. فالصراع الأهلي والطائفي ما كان ليبلغ هذا القدر من التوسع والتوتر لولا تدخل مصالح وعوامل إقليمية دفعته خارج سياقات التوافق والتشارك الوطنية. ثمة من يريد أن يبقى العراق في حال تأزم وتفكك ربما لأن نجاح العراقيين في بناء دولتهم الديموقراطية هو واحد من أهم الأخطار التي تهدد المستقبل السياسي لهؤلاء، أو على أمل إشغال الإدارة الأمريكية وكف شرها عنهم وإغراقها أكثر فأكثر في ما يسمونه" المستنقع العراقي". وطبعاً لا يهم هؤلاء أعداد الضحايا التي تسقط يومياً وأفعال التخريب والتدمير وتمزيق المجتمع الواحد، بل همهم الوحيد هو ضمان مزيد من النفوذ والحضور المتعدد الأشكال في العراق وتوظيفه كورقة لتحسين موقعهم التفاوضي أو لتخفيف حدة الحصار المطبق عليهم. والمؤسف أن تجد بين العراقيين من دخل هذه اللعبة عن وعي أو ربما عن جهل ووضع رهاناته في إحدى السلال الخارجية، والمؤسف أيضاً أن تعلق الآمال على حوار إيراني أمريكي مثلاً لإخراج العراق من محنته بينما تنحسر فرص الحوار بين العراقيين أنفسهم أو يتراجع الدور العربي الذي أدار مؤتمراً ناجحاً للمصالحة والتوافق بين مختلف الأطراف العراقية المتصارعة. الظاهرة الثانية، تكاثر الأصوات التي تدافع عن الماضي العراقي ضد التغيير، فتجد من صار يعيد التغني بايجابية حكم صدام حسين الذي ضمن للعراقيين أمنهم ووحدتهم بالمقارنة مع المحنة الراهنة المفتوحة على الخراب والموت والتقسيم، ويصل الأمر الى حد إثارة نوع من التعاطف الصريح مع نظام الاستبداد والقمع والقول إن العراقيين لا يستحقون الديموقراطية وانهم غير مؤهلين لبنائها وحمايتها، بل ما يحتاجونه اليوم هو صدام حسين آخر، وإن مجتمعاً متنوع الأعراق والطوائف على مثال المجتمع العراقي من المستحيل برأيهم حكمه من دون سلطة استبدادية رادعة، بل ويدفعون هذا الموقف الى الحد الأقصى استقواء بالتاريخ القديم وأن العراق لم يعرف مراحل الاستقرار والازدهار إلا في ظل حكام قمعيين دمويين، كالحجاج بن يوسف الثقفي وغيره!! إذا كان من الحماقة أن لا نتعلم من التجربة التاريخية ومحن الآخرين ودروسهم كي ننأى عن عثرات وأخطاء دفع ثمنها باهظاً، فمن الحماقة أيضاً أن نسمح للمحنة الراهنة بأن تزعزع ولو قيد شعرة الإيمان بالموقف الصائب من حالة الاستبداد ومن مشروعية إزاحة السلطة القديمة ورموزها الأساسية بوصفها المسؤول الرئيس عن الوضع المأساوي الذي يعيشه العراق اليوم، أو أن نسمح بالمقارنة بين الحال القائمة وبين حكم صدام حسين. فالأوضاع مهما تكن سيئة اليوم هي أقل سوءاً من الماضي، ليس لصحة القول ان أسوأ ديموقراطية هي خير من أفضل ديكتاتورية، وإنما أيضاً لأن هذا المطر من ذاك الغيم، وأن التفكك والاضطراب الراهن ليس سوى امتداد للتفكك الذي عم العراق إبان حكم صدام حسين. فالمنطق التعبوي المتخلف والطائفي الذي أدار به صدام حسين السلطة وحافظ على سطوتها هو الذي أعاد المجتمع العراقي الى مكوناته الأولية من عشائرية وقبلية ومذهبية، مثلما أن مظاهر الانحطاط والتدهور الأخلاقي الخطيرة ليست سوى منعكس لممارسات النظام السابق وثقافته القمعية المدمرة. فورث الشعب العراقي طيلة عقود هذا الإرث الدموي الثقيل وأساليب العنف وراح بعض فئاته يبدع فيه وإذا أضفنا الى ذلك الدور المتمم الذي اخذ يلعبه بعض رجال دين وأحزاب ومؤسسات طائفية تقودها الحسابات الثأرية والضيقة نستطيع أن نفهم سبب ازدياد المواجهات الدموية وتدمير دور العبادة وتسويغ قتل الناس على الهوية المذهبية. لقد رسخ صدام حسين سلطته بالفتك والقتل واحتكر العنف والبطش الذي لم تنج منه طائفة أو قومية أو حزب، وأدى القمع المعمم تحت شعارات الوطنية والقومية الى إلغاء أي حيز لدور الناس في ممارسة السياسة، فنشأ جيل بأكمله تحت هذه الظروف يجهل تماماً ماهية السياسة ولا يعرف سوى جحافل من المجرمين المحترفين يتقنون جيداً إرهاب الناس وإرعابهم وشل أي مسعى للخلاص من الظلم وطغيان الحزب الواحد. ويبقى الأمل في أن يكون ما يعانيه العراق اليوم لحظة عابرة لن تعيق وعده بمجتمع ديموقراطي معافى، خاصة أن العراقيين خطوا خطوات مهمة على هذه الطريق فصاغوا دستورهم وخاضوا انتخابات برلمانية ناجحة، ثم هم أكثر من عانى وعركتهم تجارب مأساوية ومريرة برهنت لهم قبل غيرهم الى أين يفضي العنف والقتل؟! يواجه العراقيون اليوم أكبر مهمة في تاريخهم وربما في تاريخ المنطقة وهي اجتراح طريقة للعيش معاً على نحو طوعي يقطع جذرياً مع تقليد الدولة المركزية التي أمسكت بالوحدة الوطنية بيد من حديد ودم، وينحاز نهائياً صوب قواعد العمل الديموقراطي كأحد أهم وجوه النضال وأكثرها إلحاحاً لمقاومة الاحتلال وهزيمته وللخروج من مستنقع الانحطاط والتفسخ على حد سواء. ولعل ما يعيد بناء الرابطة الوطنية العراقية ويزيل الشروخ أو على الأقل يخفف الاندفاعات القومية أو الطائفية أو العشائرية هو منح الأولوية لحضور المجتمع في العملية السياسية على قاعدة خطاب وطني يغلب مصلحة العراق على ما عداها، بما يعني كف اليد الخارجية عن التدخل في الشؤون العراقية ووضع جدول زمني لإخراج قوات الاحتلال من أرضه، وأيضاً العمل من أجل بلد هو فوق الجميع ومن أجل الجميع يحتضن بشراً متساوين في الحقوق بغض النظر عن المذهب والدين والقومية!! * كاتب سوري