كثرت في السنوات العشر الأخيرة الدراسات الغربية حول الحروب الصليبية. بل ان السيدة هيلنبراند، التي حصلت على جائزة مؤسسة الملك فيصل للدراسات الاسلامية، كانت دراستها الرئيسية عن تلك الحروب في منظورٍ مقارن. ودراسة توماس أسبريدج الجديدة عن"الحملة الصليبية الأولى ? تاريخ جديد"2005 هي بين البحوث المتقدمة والصادرة أخيراً، بيد أنني لا أستعرضها هنا بسبب جِدَّتها أو طرافة منهجها، بل للفكرة الطريفة فعلاً والتي تحاول اثباتها، والتي يمكن أن نُطلق عليها مصطلح: تمسيح الحرب. فالميراث المسيحي، على رغم امتزاجه بسطوة الدولة منذ القرن الرابع الميلادي، ظلَّ ميراثاً سلمياً. بمعنى أن رجال الدين المسيحيين كان محرَّماً عليهم المشاركة في الأعمال الحربية بشكلٍ كبير أو غير مباشر، فرجل الدين لا يحمل السلاح، كما لم يحمله المسيح، ولا يخرج في الحملات العسكرية ولو واعظاً أو مؤدياً للطقوس وان يكن كثيرٌ من الكهنة الأرثوذكس فعلوا ذلك ضمن الجيوش البيزنطية. والكهنة الكاثوليك الذين كان بعضهم يعيش في بلاط الملك منذ أيام شارلمان، كانوا يرافقونه في الحملات العسكرية ضد الكفار على الأقلّ، ويقيمون صلاةً قبل بدء المعارك. ومع ذلك فقد ظلّت الكنيسة شرقاً وغرباً تعتبر نفسها غير معنية بعمليات سفك الدم تلك، التي ما كانت تحبها، وترى أن"البشارة"بالمسيح لا تقتضيها. لكن بعد منتصف القرن الحادي عشر الميلادي ظهرت حركة ضمن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر بعض أنواع الحرب"مقدسة"أو لها طابع قدسي، ومن واجب رجال الدين المشاركة فيها بالقتال المباشر أو بالاستحثاث والتحريض والشرعنة، ومن جهة أخرى اعتبار ان من لم يشارك فيها من الدينيين والمدنيين مُدان ويستحق الحّرْمَ أو الاخراج من الكنيسة، أي من حضن المسيحية. وبلغ الأمر ذروته في العام 1095م عندما اعتبر البابا أدريان الثاني نفسه في خطبةٍ شهيرةٍ ان استرداد"قبر المسيح"ومدينة القدس واجب مسيحي من الطراز الأول، وعلى كل المسيحيين أن يؤدوا ذاك الواجب، وبقيادة الكنيسة. ولذلك أسباب كثيرة يذكرها المؤرخون، لا داعي لتعدادها هنا، لكن يأتي في مقدمها الوعي المستجدّ بالدور المناضل للكنيسة نفسها في نصرة الدين، وليس الاكتفاء بدفع الملوك والأمراء الى النضال. وهكذا صارت الحرب التي تدعو اليها الكنيسة هي"الحرب العادلة"أي المشروعة. وترتّب على ذلك ربط الحرب بالدين، وربطها بالأخلاق. أي أن الحرب العادلة هي الحرب الأخلاقية، على رغم أن الكنيسة حتى مطلع القرن الحادي عشر ما كانت تستحب أو توافق على سفك الدم إلاّ في حالات الدفاع، ولا تعتبر النزاعات الداخلية أموراً أخلاقيةً أو مشروعة. وكان الظن ان المقصود البابوي من وراء"تقديس الحرب"تقليل النزاعات الداخلية، من طريق القدرة على تحريمها، وتوجيه طاقات الأمراء الاقطاعيين الى الخارج. بيد أن الكنيسة سرعان ما صارت طرفاً، وشاركت بالواقع أو من طريق سياسات الحرمان والمنح في الحروب الداخلية أيضاً. أي أن"تقديس الحرب"أو لعنها ما جاء نتيجة اصغاء البابوية للمصالح العليا للمسيحية، بل لأنها أرادت أن تؤسِّس على سلطاتها الدينية سلطة سياسية، ولن تستطيع ذلك إلا بالقتال بنفسها ومن طريق رجالاتها، في الداخل كما في الخارج. إن الذي أراه أن الكنيسة تعاونت مع الدولة منذ القرن الرابع الميلادي في الحرب والسلم، لكن نظامها الأخلاقي ظل مستقلاً. فلما استجدت لديها اهتمامات سلطوية بعد القرن العاشر الميلادي، رمت بكل ثقلها بما في ذلك سلطاتها الدينية باتجاه تدعيم حقها وسطوتها في الشأن العام أيضاً، وشمل ذلك تقديس الحرب الدينية، واعتبارها أمراً أخلاقياً. وكما استخدمت الكنيسة أطروحة الحرب الأخلاقية في مواجهة"الوثنيين"خارج أوروبا، فإنها ما لبثت أن استخدمتها ضد أصحاب الهرطقات والبدع من وجهة نظرها، وفي وقتٍ لاحقٍ بعد القرن الرابع عشر، ما استخدمت محاكم التفتيش والحروب الدينية الا ضد المسيحيين الآخرين الذين اختلفوا مع السلطة البابوية لأي سببٍ من الأسباب. وتختلف التجربة الاسلامية عن التجربة المسيحية، فالحرب مشروعة منذ البداية، ولا فرق في ذلك بين المتدينين وغيرهم. وهناك نوع من الحروب يُعتبر القتيل فيه شهيداً، أي أن تلك الحرب تتخذ طابعاً شبه مقدس. لكن فضلاً عن الطابع الدفاعي في الغالب للحرب المشروعة، تظل الحرب مكروهةٍ ولا يُلجأ اليها الا عند الضرورة"كُتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم". وهكذا فهناك حرب مشروعة للدفاع، وتبذل جهود كبرى لجعلها أقل قسوة عدم قتل الجرحى والأسرى، عدم ملاحقة الفارين من ساحة المعركة، عدم قتل غير المسلحين نساءً ورجالاً. لكن، والحق يقال ان هناك حرباً ابتدائيةً أو جهاد طلبٍ أيضاً وليس قتال دفاعٍ فقط. ثم ان القرآن يقول:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين". وهكذا فالحرب في الاسلام لها جانب ديني هو المتصل بحفظ الدين، وحفظ وجود الجماعة. وتبقى القدسية قائمة في جهاد الاستشهاد المتصل بهذين الأمرين، كما يبقى الإشكال في السلطة الدينية الثاوية في النص من دون أن تمثله هيئة معينة كما في المسيحية الكاثوليكية. أما المسألة الأخلاقية فتتعلق بجهاد الدفاع، الذي يجعل من الحرب ضرورةً لا مخرج الا من طريقها لدفع العدوان. ولندع هذا كله للخطة ولننصرف الى قراءة المسألة الأخلاقية وتأسيسها لمشروعيةٍ ما. المتكلمون المسلمون مختلفون في أصل الحسن والقبح، والحسن والقبيح، وهل هما عقليان أم شرعيان. المعتزلة يقيمون النظام الأخلاقي على العقل، وليس هناك وضوح كي يربطون بعدها بين الأمر الديني والأمر الأخلاقي. لكن ليس من المعلوم ماذا كان رأيهم في الحروب والجهاد، وهل يتوافق الحسن العقلي هنا مع الحسن الشرعي؟ أما الأشاعرة فيعتبرون أن هناك معياراً مزدوجاً أو معيارين لكلٍ مجاله. في المسائل الدينية المعيار النص الشرعي وآليات قراءته، وفي المسائل الحياتية وغير المنصوص عليها المعيار العقل والمصالح المحددة به. وهذا الرأي بدوره ليس حاسماً لا لجهة المفهوم، ولا لجهة التطبيقات. ... وتغيرت المفاهيم والآليات في الأزمنة المعاصرة. فالأصوليات الصاعدة في اليهودية والمسيحية والإسلام، توحد بين الأمرين الديني والأخلاقي. ولذلك فعندما يتحدث الانجيليون الجدد عن الشأن الأخلاقي في السياسات الداخلية الأميركية أو الخارجية، فهم يعنون به أن شرعيته مكتسبة من توافقه مع الأمر الديني. ولا يجمجم الأصوليون اليهود والمسلمون، بل يصرحون بأنهم مع هذا الأمر أو ذاك لاتفاقه مع الدين أو لأن الدين يأمر به. وهذا التطور ليس ناجماً عن استمراريةٍ في التفكير الديني، أوصلت الى هذا التشدد. بل ان الأصوليات تقطع مع التقليد، وتعيد قراءة النصوص الأصلية، اجابةً عن الحادثة وتحدياتها. وفي الشأن الأخلاقي الديني، يعتبر الأصوليون أن ذلك رد على مقولة"الحق الطبيعي"التي حكمت الفكر العالمي الغربي منذ أكثر من قرن. فالمشروع والمستحسن لدى القائلين بالحق الطبيعي، هو الذي يطالب به العقل، والتراكم الذي أحدثته عمليات التقدم الفكري والتكنولوجي. فالدين ظاهرة عالمية، وكذلك"العقلنة"التي اشتركت البشرية على أساس منها في صناعة الدول والقوانين الدولية، ومنها ميثاق الأممالمتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الانسان. وقد لجأت المؤسسات الدولية في العقدين الأخيرين الى محاولة التصالح مع الأديان، والإفادة من امكاناتها وقيمها، باعتبارها تسودُ بين جماهير عالمية واسعة جداً. ترتبط"المشروعية"بالاختيارات العميقة للإنسان فرداً وجماعة. وهناك وجوه غموضٍ حول"السلطات"وپ"المرجعيات"الأخلاقية لدى الجماعات البشرية، وداخل كل انسان. بيد ان الأصوليات ذات النزوع الأخلاقي العالي، تفرض تحديات لا مهرب منها، وبخاصة انها اهتدت الى"قوة الجمهور"التي تستخدمها الآن بالطرائق المتعارف عليها، لدعم نفوذها وتثبيت توجهاتها في المجال العام. رضوان السيد