لست من المأخوذين بشعار حوار الحضارات أو تحالفها، لأن الحضارات حسب فهمي للتاريخ وللعالم تتفاعل ليلاً نهاراً، سلماً أو حرباً، في سخونة الواقع البشري الحي، وليس بالضرورة في ندوات فنادق الخمس نجوم. والأرجح ان هذه الندوات بمثابة علاقات عامة أو ربما خاصة بين سياسيين ومثقفين على حساب ذوي النوايا الطيبة، وأغلبهم عرب!.. وربما كان الضجيج الإعلامي والتلفزيوني لهذه الندوات في جانب، ومسار التفاعل بين الحضارات في جانب آخر في هدأة الحقيقة! ولكن طالما أن الأمر وصل إلى البحث في تحالف الحضارات من الجانبين الأوروبي والعربي، فلا بد أن نتبين، من ناحية فكرية خالصة، شروط تحققه: أشير بداية إلى أنه من ظواهر تاريخ الغرب الحديث، أن مجتمعاته عندما تستشعر خطراً أو تهديداً مباشراً يكون رد فعلها الغريزي الأول اللجوء إلى الموقف المحافظ بشدة إلى درجة الرجعية الدينية والسياسية رجعية بمقياس ما حققه الغرب ذاته من عقلانية وليبرالية وتقدم حضاري. وهذا ليس بدعاً في الغرب وحده، فالمجتمعات الإسلامية المنفتحة في العصر العباسي الأول تحولت مثلاً إلى الرجعية والتشدد عندما واجهت الخطر المغولي والإفرنجي لأن الانفتاح لا يتحقق إلا من موقع القوة والطمأنينة والثقة بالنفس. أما أقرب الأمثلة إلى الذاكرة المعاصرة في الغرب فهي ظاهرة الرجعية الفاشية والنازية التي لم تقتصر في حينه على ايطالياوألمانيا فحسب، وإنما ظهرت أعراض قوية منها في مجتمعات أوروبا الغربية ذات التراث الليبرالي المتأصل كبريطانياوفرنسا، وذلك عندما استشعرت تلك المجتمعات ما تصورته"خطراً شيوعياً"يتهدد ليبيراليتها ورأسماليتها من جانب القوة السوفياتية المتنامية ذات الامتداد الآسيوي الشرقي خلال العقد الثالث من القرن العشرين وذلك عندما أصبحت الدعوة الاشتراكية ذات الطابع اليساري والشيوعي الحاد صرخة الكثيرين من بريطانياوفرنسا خاصة بين المثقفين وقوى الإنتاج العمالية وكذلك أسبانيا التي شهدت أول الصراعات الدموية المسلحة بين اليمين الرجعي واليسار المتطرف فيما عُرف بالحرب الأهلية الإسبانية 1936، ولم تكن القوى اليمينية في بلدان الثقل الرأسمالي الليبرالي، بما فيها القوى الحاكمة، بعيدة عن الدعم المباشر للرجعية الفاشستية المتمثلة في معسكر فرانكو، وثمة مواقف"فضائحية"لتلك القوى ما زال يكشف عنها البحث التاريخي المعاصر... والمفارقة أن أسبانيا هي الداعية اليوم إلى"تحالف الحضارات"وكأنها أحست بغريزتها التاريخية القريبة مدى خطورة الصراع الراهن والمقبل حول التخوم الأوروبية! متمثلاً في"الخطر الإسلامي"الذي كان تحسس الأوروبيين حياله أقدم من يومنا بكثير وقبل ما عرف بظاهرة"الإرهاب"بعقود عديدة. فمنذ عام 1932 وبعد تصفية الخلافة الإسلامية بقليل نجد المستشرق الانكليزي جيب Gibb يصدر كتاباً فارقاً بعنوان:"الإسلام إلى أين؟"-Wither Islam ضمنه بعد مقدمته المطولة آراء لعدد غير قليل من المستشرقين الأوروبيين الذين أجمعوا على احتمال تحول العالم الإسلامي إلى قوة تهدد أوربا ما لم يتم تدارك ذلك من جذوره، حسب تحليلهم. ومنذ الثلاثينات أيضاً وفي بلد شديد التمسك بالليبيرالية كفرنسا، اضطرت جميع القوى المعادية لليمين الرجعي الفاشي تشكيل ائتلاف سياسي في جبهة شعبية مشتركة لمواجهة خطره الداخلي في البلاد والمهدد في الصميم لتقاليد الجمهورية الديمقراطية الفرنسية، ذاتها، وليس فقط لمواجهة النازية في ألمانيا الهتلرية منذ 1933. وكما حدث في معركة الرئاسة الفرنسية الأخيرة فقد تضطر القوى التقدمية الفرنسية من جديد إلى تشكيل"ائتلاف"معاصر ضد خطر اليمين العنصري المتعاظم الذي ستبدو معركة حظر الحجاب الإسلامي في المدارس الرسمية الفرنسية إلى جانب معاركه"المعركة الخطأ"ضد"الخصم الخطأ"!.. ولكن بعد فوات الأوان! بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 دخل الغرب - وخصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية - في مثل هذا المناخ الذهني والنفسي، ثم السياسي، القريب من حالة الهستيريا والهواجس السيكوباتية مما سهل على عناصر اليمين الرجعي الفاشي القفز إلى مواقع مؤثرة بقوة في تركيبة السلطة القائمة. لكن تلك الأحداث لم تأت من فراغ. فالمثير لفضول الباحث، إن دافيد هنتنغتون أطلق صيحة صراع الحضارات قبل ذلك الحدث بسنوات وإن كانت صيحته في الواقع ليست حضارية محض وإنما لصعود قوى دولية لا تنتمي إلى الغرب الأبيض لأول مرة بعد سيطرته على العالم الحديث، وذلك ما نبه إليه كاتب هذه السطور في دراسته عن قوى الشرق الآسيوي في الثمانينات، قبل تلك الصيحة بعقد من الزمن. كما إن عناصر اليمين المتشدد التي تتردد أسماؤها وتبرز وجوهها اليوم في الواجهة السياسية للولايات المتحدة، كانت قد نشرت"بيانات"تدعو إلى هذا الموقف المتشدد بعد طرح صيحة صراع الحضارات بأمد وجيز. ثم اتبعت ذلك ب"عريضة"إلى الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون، التي لم يستجب وحزبه الديموقراطي لدعوتها كما لم تستجب لها القوى الحية المتقدمة في المجتمع الأميركي وفجأة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر صعدت تلك العناصر إلى قمة السلطة وهي التي تمثل اليوم"فريق الحرب"التي تشهدها المنطقة، والذين صار الكتّاب الغربيون يطلقون عليهم المحافظون الجدد New-cons وهو مصطلح لا يعبر بالكامل عن رجعية فكرهم وتشدده . هل كل هذا"صدفة"... البعض في العالم العربي سيسارع إلى القول: لا والله، بل هي مؤامرة"قذرة"... أياً كان، فسجل التاريخ البشري وقواه المتصارعة ليس بعيداً عن هذه"القذارة"التآمرية أجلكم الله - مهما أنكر ذلك المثاليون الطيبون في كل الديانات والثقافات، ولكن دعنا ننتظر"وثائق"البحث التاريخي المقبل عما وراء تتابع مثل هذه"الصدف"التي أشرنا إليها في المشهد العالمي المعاصر... أما هاجس"المؤامرة"فلا يحتاج كاتب عربي إلى"تغذيته"حقاً أو باطلاً، فهو محيط به إحاطة السوار بالمعصم، على الامتداد الذهني والنفسي لأمته العربية الجريحة! * * * على شدة الخطر الذي تتعرض له المنطقة العربية والإسلامية من هذه الهجمة الجارية حالياً فإن هذا الصعود اللافت لقوى اليمين الرجعي من داخل القلاع الغربية وعلى الأخص القلعة الأميركية المتوترة، يمثل اليوم أبرز خطر يتهدد الغرب الحديث ذاته في صميمه. أقصد غرب العقلانية والليبرالية والاقتصاد الحر والانفتاح الفكري، وهي القيم التي ناضلت من أجلها قوى التقدم في الغرب منذ مطلع العصور الحديثة ضد رجعية الرهبنة واستبداد الإقطاع الاقتصادي والسياسي، والتعصب الفكري ضد الآخرين، بل بها صار الغرب غرباً حديثاً مؤثراً في العالم، بعد أن كان ساحة خلفية للتخلف بمختلف أشكاله. وبدونها يسقط هذا الغرب ويصبح مجرد تاريخ في ماضي العالم، كما سقطت غيره من حضارات بعد أن فقدت دافعها التقدمي. وإذا كان إيمان مجتمعات الغرب الرأسمالي الحديث بهذه المبادئ والقيم قد انحصرت تطبيقاته داخل تلك المجتمعات ونظمها الليبرالية، ولم تحل دون انتشار الاستعمار الغربي من جانب تلك الأنظمة ذاتها في بلدان أخرى لأسباب مصلحية بالدرجة الأولى ، فإن خطر اليمين الرجعي في الغرب بتطرفه الفاشستي بدعوى مناهضة الفاشستيه الأصولية الدينية في العالم الإسلامي يتهدد اليوم روح الغرب الحديث في عقر داره قبل أن يتهدد غيره ومن هنا تمرد كل من فرنساوألمانيا بما لهما من ثقل حضاري وتقدمي في أوربا" القديمة" ضد الحليف الأميركي، ليس لاختلاف المصالح فحسب، وإنما بدرجة مماثلة حفاظاً على روح التقدم الغربي، والليبرالية الغربية المنفتحة - وهي ليبرالية أوروبية الأصل - في وجه الصعود المنذر بتشويه روح الغرب على يد يمينه الرجعي المتشدد الذي تجاوزته مسيرة التاريخ ونضال الشعوب ليس في أوروبا وحدها وإنما في العالم الجديد أيضاً، وعلى الأخص في الولاياتالمتحدة الأميركية بلد الدستور والديموقراطية ومبادئ الثورة الأميركية التي مثلت نبراساً لتحرير كثير من شعوب العالم ضد الدكتاتوريات والفاشيات وأنظمة الاستبداد، قبل أن تصبح أميركا ما هي عليه اليوم. وحتى في حالة نجاح السياسة الأميركية الحالية في العراق وهو احتمال يبتعد كل يوم، فإنا نعتقد، وبمنظور تاريخي على المدى المتوسط والطويل، بأن"لحظة الحقيقة"أو بالأحرى"يوم الحساب"ليسا بعيدين عن واقع السياسة الداخلية الأميركية بمجرد انتهاء هذه الحملة وانتفاء الاعتبارات الداعية لمراعاة"الوحدة الوطنية"الأميركية في زمن الحرب. إذْ أخذت تفتح مختلف الملفات الداخلية من اقتصادية وأمنية وغيرها، وبدأت القوى الليبرالية الأميركية المعارضة لليمين الرجعي داخل الولاياتالمتحدة بالنهوض ولا بد من انعطاف تاريخي إذا أرادت قوى التقدم في الغرب إنقاذ الغرب نفسه في عصر العولمة... العولمة ذاتها التي أتاحت للعالم رؤية مئات المظاهرات الحاشدة المناوئة للحرب في الغرب ذاته ، وولدت - في وقت قصير - المعارضة الفرنسية - الألمانية الروسية لحرب اليمين الأميركي ، بما يشير إلى أن مستقبل العالم في ظل العولمة ليس كما تصوره البكائيات الانفعالية في معظم الخطاب العربي السائد. كما ينبهنا وبدرجة أهم إلى أن إمكانات مواجهة اليمين الرجعي في الغرب كامنة ليس في صراخنا وغضبنا نحن مهما كان مخلصاً وشريفاً وإنما في الغرب ذاته... في روح الغرب الليبرالي المتقدم الذي على القوى التقدمية الحية في العالم العربي الإسلامي تفهم حقيقته تفهماً يليق بروح التقدم الحقيقي في الإسلام ودوره الحضاري المؤسس في تاريخ الإنسانية، والتحالف مع الجانب المتقدم في هذا الغرب لهزيمة قوى اليمين والاستبداد المتخلف ليس في الغرب فحسب، وإنما في مختلف البلدان العربية والإسلامية التي مازال معظمها يعاني من مثل ذلك الاستبداد والتخلف أما إخفاء الرؤوس تحت الرمال في الجانبين وترك قوى التشدد والرجعة، هنا وهناك، تدير الحوار البائس بينهما، فما ذلك إلا تحضير لكارثة أكبر.... وهذه في الحقيقة هي معركة الشعوب العربية التي تنتظرها بعد صمت المدافع وانتهاء كل الحروب. ثم تبقى معركة الإصلاح الداخلي هي" أم المعارك"التي تنتظر كل شعب عربي داخل وطنه، وإلا بقينا تحت رحمة الجمود المهلك إلى مالا نهاية، أو إلى أن تتجرأ أميركا، وغير أميركا، مرة أخرى على التدخل في شئوننا الداخلية بحجة عجزنا عن إصلاح أمورنا. وما كان الله بمهلك القرى، وأهلها مصلحون وذلك ما يجب أن نتوقف أمامه مطولاً في هذا المنعطف الصعب من حياتنا. كاتب ومفكر بحريني.