في بداية عهدنا بالعمل السياسي، حينما كانت الشعارات الأيديولوجية تطغى على كامل تفكيرنا وتحجب عنا سلامة الرؤية وحسن الإدراك، كنا ننظر بنوع من العداء الى أولئك المنادين بأولوياتهم الوطنية، معتبرين إياهم من"الرجعيين دعاة الإنعزالية"و"المتآمرين على وحدة الأمة العربية خدمة للمخططات المعادية". تلك هي المقولات كانت بضخامة إدعاءاتها تقودنا الى"اهداف"هلامية، من غير ان تسمح لنا بالتوقف قليلاً، لنطرح على أنفسنا بضعة اسئلة كانت تفرضها الوقائع، من نوع: لماذا لم تنجح كل المشاريع الوحدوية، وهل لخلل في القائمين عليها أم في عدم واقعيتها اصلاً؟ وهل هناك فعلاً"امة"عربية تستمد مشروعية خطابها من وعيها في حقيقتها المجسدة؟ بل ما هي معالم وحيثيات التجسد لهذه الأمة؟ ولنفترض أنها مجرد إلتزام فكري، أو حلم لم يجد طريقه للتحقق بعد، فهل يمكن الحديث عن مدينة عامرة ببيوت خربة؟ أسئلة كثيرة كان يجب أن تطرح، لكننا وبكل عمى الألوان الذي كنا نعاني منه، خسرنا أوطاننا ولم نحقق الوحدة العربية . والنتائج الكارثية التي تمسك بخناقنا اليوم، لا بد ان تفرز واقعاً جديداً يستند اليه فكر جديد، إنطلاقاً من الاعتراف بأن جدلية الوطنية والقومي، ينبغي أن تحسم لصالح الوطني أولاً، لا لكارثية النتائج التي أدى اليها نهج الأحزاب القومية في الحكم ولا لإنكشاف عقم الشعارات التي طرحتها وعجزها عن تحقيق أي منها وحسب، بل يأتي ذلك في سياق تعديل جوهري يدخل في صلب عملية التهيئة الضرورية للمواجهة، إذا اريد لشعار"وحدة الأمة"ان يكتسب فرصة موضوعية بدرجة ما. إذ لم يعد هناك من معنى للحديث عن مفهوم للأمة خارج وحدتها وأنساقها السياسية. لقد مرّ مفهوم"الأمة"بالعديد من المتغيرات التي رافقت أو تخللت المراحل التاريخية في هذه المدرسة الفكرية أو تلك، ففيما رأى بعض الفلاسفة وعلماء الإجتماع أن الأمة تطور طبيعي لجماعات تضمها بقعة جغرافية محددة وترتبط بعلاقات إقتصادية وإجتماعية ترتقي بها الى مرحلة تكون المجتمع، وهذا بدوره ينشئ دولة تنظم وتدير نشاطاتها المختلفة ضمن قوانين تحدد واجبات المنتسبين الى هذه الدولة وحقوقهم، وفي إطار وحدة سياسية على بقعة جغرافية معينة تمارس عليها سيادتها بواسطة سلطة معترف بها، أي أن الدولة هنا هي شرط ضروري لتكون الأمة وإكتمال قيامها، وعلى هذا فان الآية الكريمة عندما خاطبت المسلمين"كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"كانت تفترض المسلمين في إطار دولة الإسلام، فالأمر والنهي كي يجدا مكانهما في الواقع الإجتماعي ويتحولا الى فعل مجسد يحدث التاثير الذي وضعا من اجله، لا بد لهما من سلطة تمتلك قدرة التنفيذ بالإلزام، والا لأخذ المصطلح صيغة الدعوة والطلب لا الأمر والنهي. فالمعروف والمنكر هنا يفترض انهما فعلان تفاضليان لهما بعد إجتماعي، أي في مقدار حركتيهما بين الناس وإنعكاس تلك الحركة على واقع السلوكيات الإجتماعية سلباً أو إيجاباً، ومن دون ذلك، إنما يفقد هذان المفهومان المعنى الحسي والجدوى حينما يتحولان الى معنيين مجردين. منطقياُ، ينبغي أن يتضمن الأمر بالمعروف في أحد أهم جوانبه معنى الإلتزام بالقوانين والأنظمة العامة، اي يصبح واجباً ولا يقتصر فقط على معنى الفعل الطوعي لما ينفع الآخرين. عندها يندرج فعل المعروف بمعياريه الأخلاقي والقانوني، وفي شكل تكاملي في خدمة الصالح العام. أما أصحاب النظريات التي تتحدث عن الأمة بصفتها أيديولوجيا فكرية أو مشترك عقائدي أو إثني، فانهم يخلطون بين الأمة كمفهوم سياسي إجتماعي، وبين القومية كإنتماء أيديولوجي أو شعوري. فعلى سبيل المثال، في إمكان العربي أو التركي أن يكون من الأمة الألمانية إذا حمل جنسية تلك الدولة. إذ أنه والحال هذه سيحقق ذاته كفرد ينتمي الى امة بعينها، تمنحه وضعاًُ دستورياً يمارس من خلاله حقوقه وواجباته كعضو كامل في ذلك الكيان السياسي، ومع ذلك يبقى عربياً أو تركياً ، مسلماً أو مسيحياً، من حيث الإنتماء الشعوري مع الاخر المشترك معه في الدين أو القومية، من دون ان تترتب على ذلك أية حقوق سياسية، إذا لم يكن يحمل جنسية أخرى للبلد المعني - حتى في هذه الحالة، هناك أولوية أن تطبق عليه قوانين الدولة المعنية إذا كان يشغل فيها وظيفة عامة أو مقيماُ على أرضها بصفة دائمة - وعليه لا تمنح عروبة السوري أو اليمني، مثلاُ، حقوقاً دستورية لأي منهما في مصر، ولا إسلاميتهما حقوقاُ في إندونيسيا، وقس على ذلك. وإذا كان التعريف الستاليني وضع خمسة شروط لتشكل الأمة، منها وحدة اللغة والجغرافيا والإقتصاد والهدف والدولة، فان ثلاثة منها تبدو عوامل مهمة وجوهرية. لكنها ليست شروطاُ بالضرورة، عدا وحدتي الجغرافيا والدولة كشرطين متلازمين في ممارسة الأمة لسيادتها. وقد جاء في الكثير من فقرات مواد القانون الأساسي العراقي للعام 1925 مصطلح الأمة كتعريف حصري للشعب العراقي. ففي المادة الثامنة والعشرين من الباب الثالث جاء ما يأتي: السلطة التشريعية منوطة بمجلس الامة مع الملك، ومجلس الأمة يتألف من مجلسي الأعيان والنواب، كذلك في المواد التاسعة عشرة من الباب الثاني والتاسعة والعشرين من الباب الثالث وغيرها، ومن الواضح ان هذا التعريف كان يوافق تماماً واقع العراق آنذاك الذي كان امة في طور التشكل بعدما توافرت لديه المقومات اللازمة لذلك، وكان من شأن أمر كهذا لو تم الإشتغال عليه في المراحل اللاحقة، أن يوحد الهوية الوطنية"للأمة"العراقية في إطار وحدتها السياسية كما هي في الجغرافيا الوطنية، مما يؤهلها لاحقاً لتوسيع بيكار طموحاتها في ان تكون رافعة أساسية لقيام وحدة الأمة العربية، بدل أن توؤل النتائج الى ما آلت اليه. والمفارقة أن ذلك القانون، كان هو الدستور الوحيد الدائم في تاريخ العراق المعاصر، الذي مورس تحت ظله نوع من الحياة البرلمانية والتبادل السلمي للسلطة، قبل ان تلتهم طاحونة الدساتير الموقتة وقرارات مجالس قيادة"الثورة"مفهوم الأمة والوطن على حدّ سواء، وطوال ما يقرب من نصف قرن. ليس هناك من أمم لا تتعظ من تجاربها، وبالتالي تعيد جدولة أولوياتها وصوغ أفكارها وخطابها على ضوء المعطيات المتحصلة من تلك التجارب. وعادة تأخذ النخب السياسية والثقافية في هذه الأمة أو تلك، زمام المبادرة في قراءة المتغيرات وصوغ ما هو ملائم لكل مرحلة تستشف منها آفاق المستقبل. لكن مما إبتليت به شعوبنا، أن الشعار بات هو المتحكم الأوحد في عقول نخبنا، ولم نعد نسمع من تلك النخبة سوى ترداد المقولات ذاتها منذ أكثر من نصف قرن. وعلى رغم من كل ما مرت به من تجارب، فبقيت تكرر نفسها من دون أي تغييرات جزئية أو كلية. وهذا يعني مقدار الجمود الذي دخلت فيه تلك النخب، لتتحول بالتالي من مساهم مفترض في إيجاد الحلول الى مشكلة في ذاتها تحتاج الى حلل. كاتب عراقي.