الطائرة لم تتوقف عن الاهتزاز. الاشارة الحمراء التي تشير الى ضرورة الامتناع عن الحركة والتدخين وربط مقاعد الامان، مضاءة منذ اكثر من نصف ساعة... نصف ساعة من الارتجاج المتواصل على علو عشرة آلاف متر، فيما الطائرة تدور، او تُجرب ان تدور على حافة القطب المتجمد الشمالي للكرة الارضية، للوصول الى الولاياتالمتحدة الاميركية. نصف ساعة من الاهتزاز المنذر بالموت فوق اضخم قطعة جليد في العالم. فكرت في انني اشعر بخوف جبان امام الطيران. في كل مرة، تبدأ رحلة خوفي عندما تكون الطائرة مستقرة على الارض! ما ان تطلق العنان لمحركها، بعد ان تصل الى مدرج الاقلاع، استعداداً لطيرانها في الهواء الصفيق، حتى يغوص حلقي الى مكان مجهول. اتصبب عرقاً. تصبح أطرافي باردة كقطع جليد. ولكن جليداً آخر يتربص بي، على بعد عشرة كيلومترات. تواصل الطائرة الاهتزاز. ما هو الحل؟ في مطار هيثرو اللندني، وقفت الطائرة على مدرج الاقلاع. انتظرت عشرين دقيقة، تحت سيول مطر مع عاصفة بروق ورعود. وصلت مطار هيثرو قادماً من بيروت، لأكمل منه السفر الى اميركا. بعد استقراري في المقعد، في تلك الصبيحة الصعبة من شباط فبراير من العام 2003، اوضح الكابتن ان عاصفة هائلة تهب على المحيط الاطلسي، الذي يفصل اوروبا عن الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة. ابلغ الربان الركاب بأنه سيغير طريقه. وبدل خط الطيران المعتاد فوق الاطلسي، سيدور على طرف القطب الشمالي، ثم يتابع فوق كندا، قبل ان ينعطف نزولاً، باتجاه الساحل الغربي، وتحديداً نحو ولاية كاليفورنيا، وصولاً الى مطار"سان فرانسيسكو". احسست فوراً بغصة قوية في حلقي. تخيلت عاصفة فوق المحيط كله. كيف تكون الحال حين يطير الهواء نفسه بسرعة هائلة على مسافة 14 الف كيلومتر، وبعرض المحيط، الذي هو اكبر من البحر، بل من مجموعة من البحار؟ اي هول ينتظر الطائرة التي تريد الطيران فوق اصعب نقطة في العالم: القطب المتجمد الذي لا تكف العواصف والرياح عن العصف في جوه؟ عواصف احسست بوصول الطائرة فوق القطب بسهولة: لم تتوقف عن الاهتزاز. اكد الربان اننا فوق المتجمد الشمالي. وطلب من الركاب الهدوء. لعله تأخر قليلاً. هدأ الركاب قبل كلامه بدقائق... طويلة. فبعد الانتهاء من مرحلة الاقلاع، ساد الطائرة"هرج"اعتيادي. تحرك البعض. انيرت شاشات تلفزيونية مثبته في المقاعد، لمشاهدة الافلام والاخبار وحفلات الغناء وغيرها. تحرك طاقم المضيفين ليقدم وجبة الافطار. لم ألمس لقمة. حتى قبل الوصول الى القطب، فكرت ان الطائرة ستسلك خطاً غير مألوف. تخيلت العاصفة فوق المحيط. هل يكون القطب المتجمد هادئاً، فيما جاره الاكثر دفئاً، اي المحيط الاطلسي، في قبضة عاصفة خرافية؟ اهتزت الطائرة قليلاً، ثم هدأت. لم يحدث شيء. اهتزت. هدأت. اهتزت. اهتزت. اهتزت. لم تعد لتتوقف عن الاهتزاز. سكن صوت الركاب. ران صمت مريب. تذكرت صمت المقابر. من بعض المقاعد، تصاعد نشيج مكتوم. سمعت تمتمات عدة. صعدت الاكف الى الجباه، ثم نزلت الى الاكتاف. تماسكت الايادي. احتقنت الوجوه. تذكرت ان آخر ما فعلته في بيروت كان البدء بتجميع مواد علمية عن المئوية الاولى للرحلة الاولى التي انجزها الاخوة رايت في مدينة"كيتي هوك"الاميركية في العام 1903. كم بدا لي مؤلماً ان الانطباع الاول الذي خرجت به من قراءة تلك المواد، يتلخص بأن لا تطور علمياً اساسياً دخل على الطائرة في قرن كامل! تحولت الطائرة، من صندوق حديد يطير بشخص واحد، الى ما يشبه مكاناً خاصاً للعيش، يطير على ارتفاع عشرة كيلومترات، بسرعة تقارب الالف كيلومتر في الساعة! لا تطور علمياً. كيف تبدو هذه العبارة في طائرة تهتز بشدة فوق القطب؟ نصف ساعة. ثلاثة ارباع الساعة. كم ستصمد الاجنحة قبل ان تنفك عن جسم الطائرة؟ اليس سخيفاً انني امضيت ساعات ابحلق في شاشة الكومبيوتر لانتقاء مواد عن الطيران، قبل زمن يسير من اللعب مع الموت في اعالي الهواء؟ وها انا الآن، بدل البحلقة بشاشة الكومبيوتر، ابحلق بخط سير الطائرة كما تظهره شاشة التلفزيون الصغيرة على ظهر المقعد المواجه لي. من شاشة الى شاشة. فجأة، خطر لي انني ايضاً سخيف تماماً! ليس لانني خائف او جبان، بل لانني اخاف من الموت. هل من انسان لم يمت؟ الا نعلم، منذ ملحمة كلكامش ان الموت مصير كل البشر الفانين، فلماذا الخوف مما يجب ان يحصل؟ توقف خوفي. عشت نصف ساعة من الهدوء في طائرة لا تتوقف عن الاهتزاز. ثم... سكنت الطائرة، فجأة. هكذا، بغتة. من دون اي مقدمات، توقف الاهتزاز المرعب. بعد لحظات، بدا هواء الطائرة اكثر دفئاً ونعومة. ظل الصمت سائداً. كسره صوت الربان معلناً عن اجتياز الطائرة القطب وعواصفه. حدقت في شاشة التلفزيون لارى الطائرة تترك خريطة القطب، لتعبر المفاز الضيق الذي يفصله عن شمال كندا...