العنف المتنقل عالمياً، تواكبه حركة نقاش واسعة، يحاول بعضها الفهم والاستيعاب واقتراح الحلول، ويكتفي بعضها الآخر، بالمواكبة "البرانية"، فيقف عند حدود الظواهر العنفية، على خلفية الإدانة المطلقة، او بدافع "التبريرية" غير المتماسكة. في "الإسلام تحت الحصار" دار الساقي، بيروت - لندن يستعرض الدكتور اكبر احمد ما يراه ضرورياً لفهم "الموجة" الراهنة من الصدام بين "المسلمين والغرب" ويجتهد في العودة بالظاهرة الى اصلها التاريخي، ويبحث عن "جذر فكري" للمشهد الحالي في ايام "الغرب السالفة" كما في ايام العرب الغابرة ايضاً. لكن لا يتوقف الكاتب اكبر احمد عند حدود التاريخ، اي انه لا يقيم قراءة الحاضر على "ذاكرة الماضي". التاريخ بعض من مقومات الفهم لديه، وليس ميداناً لاشتقاق مهمات الحاضر والمستقبل. في ضوء هذه "الاستعادة" يعاد فهم أو قراءة "جذر الحملة الصليبية" التي انزلق تعبيرها على لسان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وفي ضوئها ايضاً، تُستقرأ مواقف اسلامية، حيال الهجمة الاستعمارية على بلاد المسلمين، وما واكبها من "استجابات اسلامية"، كذلك تقرأ ردود الفعل الراهنة التي تحاول "غسل الشرق الضائع بالانتقام من المتحدرين من سلالة الأعداء المتصورين". التاريخ على المعنى الذي يدلي به "اكبر احمد" مفتوح على الأسئلة، بعضها يسوقه الكاتب والبعض الآخر يتناسل مع الهواجس التي تثيرها الأسئلة، وتستلزمها ضرورات الوقائع السياسية والمتسارعة، في اكثر من مطرح عالمي. قد يكون من المفيد الانطلاق من العنوان الذي اختاره الكاتب لكتابه "الإسلام تحت الحصار" لطرح سؤال تأسيسي غير محايد، هو: هل الإسلام هو المحاصر حقاً؟ ام ان المسلمين هم المحاصرون؟ وهل يمكن النقاش في سياق آخر، ينفي التماهي بين حصار الفكرة وحصار معتنقيها؟ السؤال في نطاقه المجرد، يعود ليرتفع ب"الإسلام" الى صعيد الأفكار الإنسانية العامة، وهي كثيرة، فيفرق بين منطوقها الأصلي، وبين وقائع تطبيقها، بحيث يعزل استهداف سبل التطبيق 0وهي سياسية عن الاختلاف حول جوهر الفكرة، وهي اخلاقية انسانية شاملة. منهج كهذا من شأنه ان يعالج ايضاً سؤالاً استطرادياً يقول: لماذا تعذر تطبيق الفكرة السامية في مجتمع محدد، هو "الاجتماع الإسلامي" عموماً؟ وإليه يُضاف سؤال آخر: هل من اهلية في المجتمع المعني لاستقبال "الفكرة" واحتضانها وترجمتها ؟ فإذا كان الجواب بالنفي صار المطلوب الذهاب الى الشروط التأهيلية التي تهيئ "مجتمع الفكرة" للاستجابة "لسمو اهدافها الإنسانية". نزعم ان المعالجة يجب ان تطاول "الاجتماع الإسلامي" والبنية الأهلية الإسلامية، وأن تقرأ المسار السياسي والثقافي والاقتصادي لهذا الاجتماع، في علاقته بدواخله وفي تفاعله مع الخارج، إذ ضمن "الدواخل وتفاعلاتها" تكمن الأزمة وفيها يقيم الخلل. الوقائع المعاندة التي تجعل من "الفكرة" هدفاً مستعصياً، مادية ملموسة، ولا يفيد في تحقيق المصالح المادية او في معاندتها "التغني بما يَعِدُ به الإسلام" او بما يحضّ عليه من "تقى ومن فضيلة ومن شرف". شرف له كل الصفات النبيلة، التي عرفتها مجتمعات البداوة وما ماثلها لدى اكثر الشعوب. لقد اختزل المسلمون "الحضارة الراقية الى شعائر بسيطة، لذلك صارت الإجابات بسيطة ايضاً"، خلاصة مهمة يسوقها الكاتب، ومعها يؤكد ان "ايام الإسلام العظمى هي الأيام العظمى للمعرفة والتسامح"، قراءة هاتين الخلاصتين تذهب بالنقاش الى مواضع اخرى. من هذه "المواضع" ان اعتماد النقاش "الشعائري" وسلوكياته، دلالة على العجز الذي اصاب "الحضارة والقيمين عليها" لذلك اكتفوا من "الغنيمة بالإياب". ومن المضامين ان الشعور بالثقة، والاطمئنان الى قوة الفكرة وإلى حقيقة انتشارها، يتيحان المجال امام التعبيرات المخالفة والمناوئة، لأن الإطار العام قوي بما فيه الكفاية، وقادر على الرد على الظواهر الجزئية من خلال ثقافته العامة المكينة. خارج المواضع هذه، يُطرح على المتابع المهتم سؤال ذو حساسية عالية هو: لماذا استجابت "ثقافة الحضارة الإسلامية" السائدة، لردود افعال تخرج عن اهدافها الأصلية؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتمل امكان اشتمال "الثقافة" ذاتها على نصوص الخروج عليها، وهذا يفتح باب النقاش في "متن النص الأصلي"، وتحتمل تجاوزاً ما من "ثقافة" اخرى وليدة، اهملت "الثقافة الأم" باسمها وتحت رايتها، وهذا يشرع البحث في الشروط "السياسية والاجتماعية" التي أتاحت ذلك. "ينفي الدكتور اكبر احمد تأثير "المجتمع المحدد" في المفاهيم الإسلامية، فهو يشير الى ذلك في معرض حديثه "عن حركة طالبان" حيث "تتغلب بعض التقاليد القبلية" على التعاليم الإسلامية، وكما يحمّل الكاتب "الفشل في خلق مجتمع عادل مسؤولية الانكفاء على افكار القبيلة وشرف الانتقام" ولا يفوته ان ينوّه بأن هذا "الشرف يصير اهم من عبادة الله". يعزو "كاتبنا" موجة القلق الحالية، الى ظاهرة عامة، فعنده ان "المعايير الأخلاقية تضطرب في اوقات التغيير"، فإذا ترافق ذلك مع "انهيار العصبية بالمفهوم الخلدوني" ادى الأمر في مجتمعاتنا الضعيفة، وغير القادرة على الاستجابة "العقلانية" الى نشوء نوع "من العصبية المفرطة" التي تشكل ظاهرة لعالم يقترح الكاتب ان يسمى: "عالم ما بعد الشرف". الحديث عن "تسارع المتغيرات" يدفع الدكتور اكبر احمد الى التوقف امام ظاهرة العولمة، فيقرأها على وجهي الناشطين فيها وباسمها: بعضهم يريدها مناسبة لتأكيد النصر وتعميم "الرأسمالية وتعظيم الأرباح" وبعضهم يرى فيها مناسبة للرخاء المتوازن، او "العالم اكثر عدلاً واستقراراً". لقد سبق لكثيرين ان ناقشوا الظاهرة، لكن احداً منهم لم يتناولها في شكل احادي، حتى اولئك الذين غلبوا وجهاً من وجوه العولمة على الجانب الآخر. لكن التفاوت ظل كامناً في الاستجابة لتحدي العولمة، وهذا راوح بين نكوص وانكفاء على الهوية، او بين مبشر ب"فضائل العولمة" وداع الى اللحاق بركبها. قلة زاوجت بين متطلبات "الهوية والاجتماع" في الداخل، وبين ضرورات الانتماء الى العالم، في محاولة للتأثير في مجرياته "الطاحنة" على اكثر من صعيد. لقد قيل ان "العولمة خرافة"، وقيل انها عالم: "الكل رابحون"، وقيل ايضاً انها "استعمار في حلة جديدة". كل تعبير من هذه التعبيرات يحيل الى قراءة وضعية ما "في العولمة الحالية". انطلاقاً من ذلك يقرر "الكاتب" ان الأجدى حالياً التعامل مع المرحلة التاريخية الراهنة بصفتها "لحظة من الكاشف الهادئ"، وإلى تبني هذا الشعار يضيف وصفاً يجمع بين المواقف من مضامين العولمة، عند تصريحه "ان العولمة وعد ما وحقيقة ما وخيال ما". عليه يصير مطلوباً من الآخرين، ان يعينوا حدود تداخلهم مع "العولمة" وأن يرسموا نقاط اختراقهم "الخطرة عنها، في مجتمع المخاطرة" الحالي. وعلى سبيل التذكير، يؤكد الدكتور احمد، ان "العولمة" ليست غريبة عن الإسلام، "بل ان فكرتها وممارستها مألوفتان في تاريخ المسلمين" ناهيك عن "ان رؤية الإسلام للعالم رؤية عالمية". تتضمن هذه الإشارة، دعوة ل"المسلمين" لإعادة اكتشاف "ذواتهم الفاعلة" بالتأسيس على "تاريخ حقيقي" في عالم وقائعي، وليس بالانصراف الى البحث عن "طهارة في عالم لا طهر فيه". من شروط البحث، بحسب الكاتب، معرفة الخلل الكامن ضمن مجتمعاتنا، وفي ثنايا نظرتنا الى "الآخر المختلف" في هذا المجال يدعو "الكاتب" الى ضرورة "الكف عن تمثيل الآخر بالشيطان، وإلى التوقف عن تصور المؤامرة العالمية وإلى فهم الغرب فهماً افضل، وإلى تطبيق الديموقراطية..." وحيال المسلك الديموقراطي، تم تأكيد يسوقه "الكتاب" "ان الشورى من غير إلزام او التزام مجرد اوهام"، اي ان العبرة ليست في المسميات بقدر ما ان الدليل يقوم في المسلك اليومي، الذي يسعى الى "بناء تصور جديد للإسلام يشمل العدل والاستقامة والتسامح وطلب العلم" لا مجرد التمسك بالشعائر...". يكتمل "البحث" لدى الدكتور احمد ب"مهمات الغرب" في "مسيرة البحث المتكاملة"، فالغرب مطالب لدى "المؤلف"، بالمبادرة الى "الاستماع والفهم ومساعدة المسلمين على اعادة بناء احساسهم بالكرامة والشرف من جديد... وإلى التمييز بين المسلمين والإرهاب...". لا بأس من الإشارة، الى ان شروط البحث الصحيحة كقاعدة، لا تفضي آلياً الى "دقة المناشدة" التي تطلب من "العرب والغرب" على السواء. لأن السؤال في المكانين: هل "القيادة الإسلامية المفلسة" معنية او قادرة على ما يدعوها الكاتب إليه؟ وهل الغرب، في وارد "تعزيز كرامة" المسلمين؟ ام ان نهب خيراتهم، ممرّه، إدامة التخلف في مجتمعاتهم، وشل عصب الكرامة لدى افرادهم، ودفعهم الى قبول سلّم اولويات أو خيارات عالم "ما بعد الشرف"؟ ألا يتسق ما نذهب إليه مع ما ذهب إليه الكاتب نفسه؟ حين قال: "ان التقوى والفضيلة يتحكم فيهما الآن العمل السياسي، وهو غالباً ما يساوي العنف ولا يقابل الاستقامة الأخلاقية او الروحانية". لكن على رغم هذا المشهد، او ب"القفز" فوق صعوبته، لا يجد الدكتور اكبر احمد بديلاً من طرح "أسئلة من اجل عصرنا" فيقترح "إطاراً منهجياً جديداً لدراسة المجتمع العالمي الراهن ودراسة الأديان العالمية كمفتاح رئيس للفهم، ودور الدين في التطورات السياسية...". نستطيع القول ان الأسئلة ليست جديدة ايضاً، لكن طرحها يؤكد اهميتها الحاسمة. ومع ذلك، فقد يكون من الأجدى دائماً، البحث في صلب السياسة، لئلا تظل "ردودنا ردوداً ثقافية" في حين ان المطروح امور سياسية واقتصادية. ما صار مؤكداً، هو ان "لقاءات الحوار بين الأديان، لم تقدم حتى الآن، سوى بعض "الفهم النخبوي" المتبادل، لكن الكلمة ما زالت ل"الشركات العابرة للقوميات"، وما زال الاصطفاف والتخندق "طابع المصالح" المادية المتباينة، مثلما ان الاختراق الأصلي سيظل قاعدة "الأديان" على اختلافها. لنا ان نأمل في جهد عالمي، يحد من "اكتساح الرأسمالية" للمجتمعات والهويات والعادات والتقاليد، ويقلّص الفجوة بين الأوطان، على قاعدة توزيع اكثر عدلاً للثروات، في عالم اقل توتراً، ذي بيئة انظف، وذي نمو سكاني مضبوط... يجري هذا ضمن العالم المادي المفتوح وخارج القيود المحددة سلفاً، مما لا يتيحه "العالم الديني" الذي حدوده السماء، وحراسه "سيوف الأرض" المتوترة. * كاتب لبناني