برحيل عبدالعظيم ناجي تفقد الحياة الشعرية المصرية والعربية شاعراً مهماً من شعراء جيل الستينات المميزين نحا بين أقرانه منحى تجريبياً جلياً، أبعده من تيار الرومانطيقية الانسانية الذي تجسد في فاروق شوشة وابراهيم ابو سنة، كما أبعده من تيار الالتزام السياسي المباشر الذي تجسد في أمل دنقل، في حين قرّبه من تيار التجديد والتركيب الذي تجسد في محمد عفيفي مطر. انقطع عبدالعظيم ناجي عن الشعر فترة طويلة، استغرقت عقد السبعينات كله وقسطاً من الثمانينات، بسبب سفره الى بعض البلاد العربية بحثاً عن أمان العيش وبعيداً من الشظف وضيق ذات اليد. على أن السبب الأعمق لهذا الانقطاع - في ما أرجح - كان التأمل: ماذا يريد من الشعر، وماذا يريد الشعر منه؟ وحينما عاد في منتصف الثمانينات كان اختار طريق التجريب الشعري، الذي قد ينأى به عن الجمهور العريض والتواصل السهل مع القراء، لكنه يُرضي ذاته الجمالية العالية، التي ترى أن إبداع النص الشعري عمل شاق، ومن ثم فإن تلقيه لا بد من أن يكون شاقاً، كأنه يعيد تأكيد مقولة صلاح عبدالصبور: "لا تأخذ شعري بسهولة، فإن كتابته لم تكن سهلة". صدرت لعبدالعظيم ناجي 1933 - 2003 دواوين: "يسقط الصمت كمدية" 1992، "كعكة ذهبية في اليوبيل المحترق" 1997، "الحنين تلك العبودية الزرقاء" 1997. وله قيد الطبع: "أتطلع إلى فرصة سانحة للقائكم" شعر، "زمن القرنفل" سيرة / يوميات / رواية. مع عودة ناجي الى الشعر، ساهم مع بعض شعراء الاسكندرية الشباب في إصدار مجلة "الاربعائيون" التي كان من اعضائها: علاء خالد، مهاب نصر، احمد حميدة. وشكل ناجي لهؤلاء الفتية اليافعين أبا يحتمون بخبرته ورعايته ويتمردون على وصايته وتراثه في آن واحد: "في آخر الليل يأتي الليل/ الرجل الكثيف يجري تعديلاً على جدول أعضائه/ يعلّق اسمه على الحافة/ يجلس برهة على الكرسي الرسولي/ في الموقد يضع عرنوس الثمرة/ وفي أيطل القمر يمسح شاربه/ ثم يعلن انتسابه الى السواحل البعيدة". تتسم التجربة الشعرية عند عبد العظيم ناجي، لا سيما في ديوانه "الحنين تلك العبودية الزرقاء" بجملة ملامح اساسية، منها: غواية التجريب وكسر المقامات التقليدية المعتادة في حركة شعر التفعيلة، بما يتضمنه ذلك من هجر الوزن الخليلي واعتماد "قصيدة النثر"، والاستغراق في المجاز استغراقاً يأخذ النص في بعض الاحيان الى سماء الهيولى غير المتماسة بالأرض، والحضور الطاغي للاسكندرية بصفته شاعراً سكندرياً على نحو يذكّر بعشاق الاسكندرية الكبار، من أمثال كافافيس ولورانس داريل وسيف وانلي ومحمد منير رمزي وإدوار الخراط وابراهيم عبدالمجيد وغيرهم. يقول في قصيدة "اسكندرية 1959 جسدٌ يؤجل كينونته": "هذا خليج تحتله المجازات/ وهذا ديالوغ بين منديل مدنف وآلة من آلات الهارب/ وتلك تراتيل تصقلها ذاكرة المعابد/ شارع صفية زغلول يجذب انتباه الناس بساقه الممطرة/ "قل أعوذ برب الفلق"/ يقف سيف وانلي/ خلف تقاطع الزجاج/ كي يحمل الهيكل العظمي لشهر ديسمبر". لم يكن المجاز وحده هو الذي يثقل تجربة ناجي الشعرية العميقة، بل كانت زخارف الثقافة المفرطة كذلك تنوء بالنص، حين يعمد الشاعر الى حشد الكثير من المعارف والاشارات الثقافية والاسماء الاسطورية في سطوره حتى تبهظ بها السطور وتخلو من تأثيرها المرتجى. غير أن عبدالعظيم ناجي - المثقف الاصيل - لم يكن ليفلت من ثقافته الواسعة، لكن هذه الثقافة المبهظة لم تحل دون سخريته المرّة وتهكمه اللاذع من مآل الاسكندرية التي انشرخت بين النقائص: "كنت أصلح هوائي التلفزيون/ عندما تقدم ارسطوفانيس/ ووضع في جيبي حفنة من الضفادع/ شكرته واعطيته مسلّة/ الاسكندرية تمد ساقيها الى البحر/ فتمتلئ معدتها بالمقاهي ودكاكين الوراقين/ وقبل أن تدفعها الرياح الى عرض الماء/ كانت مذيعة التلفزيون/ اخذت شريحة مقطعية من وجه ارسطوفانيس/ لتقدم عليها إعلاناً عن: "مرق الدجاج". برحيل عبدالعظيم ناجي: "يسقط الصمت كمُدية".