ثمة أشياء عدة كان لازماً على زائر العراق أن يفعلها أيام كانت البلاد مركزاً للسياحة يتهافت عليها العرب والأجانب. زيارة المتاحف والأسواق القديمة كانت في المقدمة: المتحف البغدادي الذي يعرض تماثيل من الشمع، والمتحف العراقي بمحتوياته النادرة... وفي ما يخص الأسواق فإن"سوق الصفافير"كان المعلم السياحي الأبرز الذي يقصده الزوار لاقتناء بعض مما يباع فيه، بالإضافة الى سوقي الشورجة والكاظمية وهما من أسواق بغداد القديمة. وترجع تسمية"الصفافير"الى مادة النحاس"الصفر"الذي تصنع منه الأواني المنزلية وأباريق الشاي والكاسات والملاعق وإطارات الصور والفوانيس والقدور ومقتنيات آثارية تحاكي آثار العراق، فضلاً عن مقتنيات العروس البغدادية في خمسينات القرن الماضي من صناديق خشبية مرصعة بالنحاس كان يوضع فيها جهاز العروس وحلي الطفل وحاجياته وغيرها. ويعتبر النحاس المادة الأساسية للصناعات التي تشتهر بها السوق، ويسمى أصحاب المهنة"الصفارون"ويقسم عملهم بحسب مراحل الإنتاج فمنهم من يضرب على النحاس نحتاً باستخدام المطرقة والمسمار، وأكثرهم من صغار السن. بينما يختص الآخرون بتصميم الزخارف التي ستنحت على صفائح النحاس، في حين يعكف غيرهم على صقل المنتج بعد زخرفته وتلميعه أو يلوّن بعض أجزاء الصفائح المطروقة لتضفي لمسات فنية أكثر جمالية على الأواني، وبعضهم الآخر يرصعها بالأحجار شبه الكريمة أو يطليها بالمينا. وعلى نقيض محلات البيع، فإن ورش الصناعة غير مرتبة وتختلط فيها الاشياء بشكل عشوائي. غير أن إتقان أصحابها المهنة منذ زمن جعلهم يعرفون الأماكن التي يضعون أغراضهم فيها تلقائياً. الجلبة التي كانت تحدثها مناقشات السياح وهم يتحاورون مع أصحاب المحلات على السعر النهائي باتت مفقودة اليوم، باستثناء أصوات قليلة ناجمة عن مطارق الحدادين الذين أصبحوا نادرين الآن. يقول الحاج خالد الأيوبي الذي أمضى ثلاثين عاماً في هذه الحرفة إن التكلم بصوت عال كان سمة السوق"لأن كثرة الزبائن وأصوات الطرق على النحاس كانت تمنعك من السماع"، مشيراً الى ان السوق تفتقد هذا الأمر الآن وكأنها أصيبت ب"الخرس"بعد أن هجرها السياح الذين ترتبط عودتهم إلى العراق، وبالتالي الى السوق، بتحسن الوضع الأمني. ويؤكد زميله الحاج أبو فاطمة أنه بعد أن كانت السوق معلماً تراثياً وسياحياً باتت اليوم وكأنها مصابة بالشلل، إذ هجرها شيوخ المهنة وخبراؤها وتحول معظم المحلات الى ورش لتصليح الأواني والمقتنيات النحاسية، كما انخفض الإنتاج لقلة الطلب عليه، واجتاحت السوق المقتنيات المستوردة الأجمل شكلاً والأرخص سعراً. ويضيف:"أصبح عملنا معتمداً على ما يرغب الزبائن من زخارف ونقوش". وتعتبر سوق الصفافير معلماً سياحياً لقدمها ومكانتها في تاريخ بغداد. وفي الوقت الذي تخلى العراقيون عن اقتناء الأواني النحاسية وتوجهوا لشراء الزجاجيات، فان الصفارين لم يتخلوا عن مهنتهم في وقت أصبح امتلاك النحاسيات ضرباً من اقتناء التراثيات والتحف التي تمثل جانباً من المصنوعات الشعبية العراقية. ويتفاخر الصفارون بسوقهم التي يرونها"أهم أسواق بغداد ولا مثيل لها في مختلف أنحاء العالم". ويؤكد عدد منهم أن المهنة لم تسلم من الغش، فغياب الرقابة في هذه الظروف أدى الى تراجع جودة النحاس المستعمل، وكذلك يُسجل عدم إتقان العمل من قبل بعض الحرفيين بعدما كان عملهم مشهوراً بالفن والذوق الرفيع.