سعدت بالاشتراك في الندوة التي أقامتها مجلة "العربي" الكويتية بعنوان "الغرب بعيون عربية" ما بين السابع والعشرين والتاسع والعشرين من شهر كانون الأول ديسمبر من العام المنصرم. فقد كانت الندوة خاتمة علمية موفقة للعام 2003، الذي رحل حاملاً الكثير من الأحزان الفردية والقومية، فقد اختطف الموت من حياتنا الثقافية إحسان عباس وإدوارد سعيد ومحمد شكري وفدوى طوقان الذين كانوا يضيئون الأفق العربي بإبداعاتهم الثقافية، كما حمل لنا العام نفسه كارثة غزو العراق واحتلالها، إنهاء لحكم ديكتاتوري ظالم واستهلالاً لعهد استعماري لا يعرف أحد متى نهايته. ويبدو أن هذا الغزو طرح على وعي الذين خططوا لندوة "العربي" وأعدوا لها سؤال "الآخر" الذي التبست أوجهه وتعددت، خالطة ما بين الوجود السياسي والثقافي، الحضور العسكري والتأثير الحضاري. وكان طرح هذا السؤال مرة أخرى، وعلى نحو قلق، علامة على رغبة معرفية في تأصيل العلاقة بيننا وهذا الآخر الغربي الذي فرض نفسه، عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، بقوة أحدث الأسلحة الملازمة لأكثر وعود الثقافة بريقاً ومخايلة. واقتضى التخطيط السليم للندوة أن تبدأ من المرحلة الأولى في التعرف الحديث على الآخر الغربي الذي لا يزال يصدم الوعي العربي ويشغله، منذ أن دكَّت مدافع نابليون حصون الإسكندرية، وأوسعت الطريق للجيوش الأجنبية التي اصطحبت - إلى جانب البندقية والمدفع - المطبعة والمجلة، وأشكالاً مغايرة من الثقافة الحديثة التي لم تخلُ - يوماً - من التحديات التي تواجه المتخلف بحقيقة تخلفه على مستويات كثيرة. هكذا، التقت مجموعة من المثقفين العرب، تضم وجيه كوثراني وجليل العطية ومصطفى نبيل ومحمد رجب النجار وقاسم عبده قاسم ولطيف زيتون وخليل الشيخ ومحيي الدين اللاذقاني وشاكر اللعيبي وصلاح نيازي وصلاح فضل ويوسف المحيميد ومسعود ظاهر وأمين الباشا وحسن حنفي وغيرهم من المهتمين بقضايا "الأنا / الآخر" بكل تعقيداتها والتباساتها. وكان السؤال المطروح عليهم عن الكيفية التي رأى بها العرب الغرب، والمشكلات التي انطوت عليها هذه الرؤية التي حددتها عوامل كثيرة، ارتبطت بعضها بأوضاع الأنا القومية ومطامحها التاريخية، ولم يخل بعضها الآخر من الشروط التاريخية التي دفعت "الآخر" الغربي إلى غزو الشرق، ودفعت أبناء الشرق إلى زيارة الغرب لمعرفة أسباب تقدمه، في مقابل أسباب تخلفنا التي أدّت إلى هزيمتنا في الصدام الأول الذي ابتدأ بحدَّة مع أواخر القرن التاسع عشر. وكان يمكن الندوة أن تزداد اكتمالاً لو حضرت أسماء عربية لم يتمكَّن أصحابها من الحضور، ودعيت المثقفات الخبيرات بالموضوع، فقد خلت الندوة من الحضور النسائي الفاعل على نحو دال، وهو غياب لم يقِلّ لفتاً للانتباه عن غياب الباحثين والباحثات من الكويت التي عقدت فيها الندوة. ولكن حضور الندوة وجدوا في المناقشين والمناقشات من أبناء الكويت والمقيمين فيها ما أسهم في تعويض الغياب الذي أشرت إليه، كما وجدوا في ثراء النقاش واختلاف الآراء ما أسهم في تعميق مسارات الحوار التي أضافت إلى الأوراق المقدَّمة معاني ودلالات جديدة. وقد تقبَّلتُ دعوة الصديق سليمان العسكري رئيس تحرير "العربي" بحماسة، أولاً، بسبب تقديري لجديته في العمل وانتمائه القومي الذي لم يتخل عنه حتى في أحلك المواقف، وثانياً بسبب تقديري لمجلة "العربي" التي لا تزال تواصل دورها التنويري الحيوي، منذ صدورها سنة 1958، وهي تعمل على تأكيد وحدة الثقافة العربية بالتنوع القومي لأقلامها التي تتوزع على أقطار الوطن العربيّ كله، وذلك في دلالة عربية ساطعة لا بد من إبرازها في هذا الزمان الذي يتنكَّر فيه بعض العرب لعروبتهم. ومن أيادي "العربي" البيضاء على الثقافة العربية أنها لم تكفّ في عدد من أعدادها عن إضاءاتها التي أسهمت في تعميق معارف القراء في كل قطر عربي بغيره من الأقطار، وأضافت إلى ذلك "الاستطلاعات" التي كانت نوافذ للأعين العربية، كي ترى أقطار العالم على امتداد كوكبنا الأرضي، الأمر الذي أضاف إلى البُعد القومي لمجلة "العربي" بُعداً إنسانياً، وصلها بثقافة العالم كله وأتاح للعرب من القراء أن يروا "الغرب بعيون عربية" حتى من قبل التفكير في هذه الندوة. ولا أحسب أن اختيار العنوان الذي أرادته "العربي" علامة على هذه الندوة من قبيل الاختيار العشوائي، وإنما هو اختيار نابع من رسالة المجلة في إخلاصها لأهدافها القومية والإنسانية. وأتصور أن هناك أكثر من دلالة في تخصيص ندوة لهذا الموضوع، في هذا الوقت الذي تعاني أمتنا العربية التحولات الجذرية على المستوى القومي، والتغيرات غير المسبوقة على المستوى العالمي. وهي تحولات ومتغيرات تفرض علينا مراجعة كل شيء يتصل بنا وبغيرنا، وأن نضع موضع المساءلة أوضاعنا المعرفية والثقافية، سواء في علاقتنا بذواتنا، أو علاقتنا بذلك "الآخر" الغربي الذي تتعدد تجلياته وتتباين أحوال علاقتنا به في الكثير من المجالات. ومن المؤكد أن دراسة الكيفية التي رأينا بها "الغرب بعيون عربية"، في الماضي هي المقدمة المنطقية لدراسة أحوال رؤيتنا لهذا الغرب بالأعين نفسها في الحاضر الذي نسعى إلى تطويره، كي نؤسس برؤانا تصورات أفضل للمستقبل الذي نحلم به لأنفسنا ولغيرنا. ولا أعتقد أن الآليات التي تنبني عليها طرائق رؤيتنا للآخر الغربي، اليوم، تختلف عن الآليات نفسها التي انبنت عليها علاقات الرؤية في نهاية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلى امتداد القرن العشرين، فالأصل العلائقي الذي يربطنا بهذا الآخر لا يزال قائماً، والتماس القائم بين أوجه الآخر المتعددة - خصوصاً في مركزيته الأوروبية - الأميركية - لا يزال ملحوظاً، قادراً على الانتقال بالتأثير من دائرة إلى أخرى، وذلك على نحو لم يفصل بين الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد آن الأوان لمعرفة العدسات التي حدّدت عملية الرؤية، حتى في متغيراتها التي لم تفارق نقطة الارتكاز البؤرية التي حكمت كل شيء في آليات الرؤية ونواتجها. إن الغرب الذي تحدثت عنه ندوة "العربي"، مفرداً تراه الأعين بصور متعددة، أو جمعاً تراه الأعين في صورة واحدة، وإنما هو جمع متباين الأبعاد، متعارض الدلالات، متصارع المصالح، فهو الغرب الذي انقسم بانقسام أولويات أقطاره وتوجهاتها وخصوصياتها، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً. وذلك في مواجهة الأعين العربية التي تباينت نظراتها إلى الغرب، فشاهدته مفرداً بصيغة الجمع، وجمعاً بصيغة المفرد، وتباينت رؤاها عنه بحسب تحولات مواقفه من ناحية. ومن ناحية مقابلة حسب معارف الأعين الناظرة وثوابتها القَبْليَّة التي كانت أُطراً مرجعية في معرفة الغرب التي ظلت معرفة بالنفس، ونظرات لا تخلو من العبرات، سعياً وراء تخليص الذهب الإبريز من كل ما يشبه باريز. لقد تعلمنا من علم نفس المعرفة أن الأنا لا تستهل وعيها بنفسها إلا بانقسامها الذي يجعل منها ذاتاً ناظرة وذاتاً منظوراً إليها. ولا يكتمل وعيها بنفسها إلا بحضور "الآخر" الذي ترى فيه وجودها، منعكساً بالسلب الذي يفرض المجاوزة، أو الإيجاب الذي يستلزم المواصلة. ويعني ذلك أن وعي الغيرية هو الوعي المكمل لوعي الذاتية في معرفة الأفراد والأمم على السواء. ولذلك فإنه بقدر ما كان حضور "الآخر" الغربي ضرورياً لوعي الأنا القومية بحضورها الذاتي، في علاقتها بغيرها، كان هذا الآخر الغربي بمثابة المرايا التي أتاحت للأنا القومية الابتعاد من وجودها المتعيِّن لتغدو أكثر اقتراباً منه وإدراكاً له. ومن الطبيعي - والأمر كذلك - أن تغدو كل رحلة إلى "الآخر" العربي، وكل كتابة عنه، ابتعاداً يراد به القرب، وذلك في مدى معرفة الآخر التي هي معرفة الذات، أو التي هي محاولة من الذات لمجاوزة ما هي فيه باكتساب ما تفتقر إليه في غيرها الذي ترى فيه نفسها بسلبها وإيجابها. ومن هذا المنظور، فإن الفارق بين الوعي الساكن المذعن للأنا القومية، قبل صدمة اللقاء بالآخر، ووعيها المتوتر القلق المتوثب، بعد صدمة اللقاء بالصور المتعددة للآخر، عسكرياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وصحياً، هو الفارق بين الوعي الذي استنام إلى ما هو عليه من تخلّف وجمود، عبر أزمنة الانحدار المعروفة، والوعي الذي دفعه "الآخر" دفعاً عنيفاً إلى التحديق في حضوره، والاكتشاف المفاجئ لما يلازم هذا الحضور من علاقات التخلف في المجالات التي اهتزت بعنف، وأصبحت موضعاً للنظر الجديد الذي رأى ما لم يكن يراه من قبل، خصوصاً بعد أن فارق خَدَره وثباته، وانتقل من حال إلى حال نقيض. وكان ذلك في عملية مزدوجة لم تخلُ من معاني تبادل الأثر والتأثير، فالصدمة المعرفية التي اقترنت بأسباب التقدم، والتحديق إليه في كل مجالاتها، سرعان ما انعكست لتغدو تحديقاً لأسباب التخلف، واكتشافاً لكل أسبابه، ولكن في علاقته بالنقيض الذي أصبح مكمِّلاً للوعي بالهوية. وكان كل تحديق في هذا النقيض يعيد العين المحدِّقة إلى نفسها لتراها بعيني الآخر. وبالقدر نفسه تعيدها الرؤية الذاتية إلى الآخر، وهكذا دواليك في حال من تبادل الفاعلية والمفعولية الذي ظل أصلاً ثابتاً لحركة الأعين التي لا تزال متعلقة بالآخر. وبقدر ما كان التحديق إلى الغرب بعيون عربية ينطوي - من هذا المنظور - على صدمة المعرفة بأحوال تخلف الأنا القومية، في المدارات المغلقة التي أطبقت عليها، كان هذا التحديق يؤسس لعلاقة لم تنبنِ على مبدأ التكافؤ أو المساواة بين طرفيها، فالأنا الناظرة تشعر بنقصها في مواجهة المنظور إليه. والمنظور إليه ظلّ يؤرق هذه الأنا ويزيدها توتراً كلما ازداد تقدماً، وذلك بالقدر الذي ظلّ يهددها به على مستويات كثيرة. وكانت النتيجة علاقة ملتبسة لم تخلُ من تعقيدات الآليات الدفاعية التي تلجأ إليها الأنا عند الشعور المفاجئ بما يزعزع ثباتها أو يقينها المتوارث. وكان من نتيجة ذلك أن انبنت علاقات الرؤية على تراتبية إدراكية لم تخلُ منها، فموضوع الرؤية ظل النموذج الأعلى الذي ينبغي أن يحتذى، ويتحول احتذاؤه إلى السبيل الأوحد للتقدم. وقد بقي الإعلاء الواعي أو اللاواعي من شأن هذا النموذج على حاله، جذرياً، في المراحل المختلفة من العلاقة بالآخر، حتى أحوال الغضّ من شأنه، أو التمرّد عليه، أو التملّص من سطوته في ما أطلق عليه حسن حنفي "الاستغراب" الذي يفعل بالغرب ما فعله الغرب بنا، في نوع من الثأر، ظلت واقعة في شراك التراتب القسري، ومن ثم واقعة في شراك علاقة الأعلى / الأدنى التي لم تتغير جذرياً قط. ويبدو أنها لن تتغير إلا إذا أعدنا النظر جذرياً في آليات العلاقة المعرفية التي ربطتنا بالغرب، والتي جعلتنا ننظر إليه على هذا النحو من دون ذاك. وأتصور أن صيحات الانبهار والدهشة المقرونة بالإعجاب، والتي لم تنفصل - قط - عن التحسّر على ما نحن عليه من تخلّف، لا تزال عناصر متكررة في الآليات التي جعلت الغرب موضوعاً للإدراك، أو موضوعاً للرؤية بعيون عربية. هذه الآليات المتكررة لم تفارق لوازمها التي جعلت الوعي الناظر منشغلاً بما بدا له كمالاً مربكاً في موضوع الإدراك المنظور، وهي التي حالت بين هذا الوعي ووضع موضوعه موضع المساءلة التي لا يمكن أن تتحقق إلا على أساس من التكافؤ المعرفي، أو الشعور بالندية في حضرة الآخر. ومن الطريف أن رائد الرحلة إلى الغرب، رفاعة الطهطاوي، استعان بمبدأ التحسين والتقبيح العقليين ليستحسن ما يمكن استحسانه من حضارة الغرب، ويستقبح ما يمكن استقباحه، وذلك في مواجهة قارئه العربي المعاند الذي ظل حاضراً على نحو مضمر في كتابة رفاعة، فاضطره إلى تأكيد أنه لا يستحسن شيئاً إلا ما قبله الشرع، ولا يستقبح شيئاً إلا ما استقبحه الشرع. ولذلك كان العقل الأشعري الذي يلجم المبدأ الاعتزالي في التحسين والتقبيح بالنقل يعاود الانبثاق في وعي رفاعة الطهطاوي. ولكن هذا الانبثاق لم يقلل من حقيقة أن الاستحسان غلب الاستقباح على نحو طاغٍ في ما كتبه رفاعة أو رآه، وأن غلبة الاستحسان اقترنت بالانبهار الذي ظل في أعلى درجاته على امتداد ما رأته أعين رفاعة وفي مجالات الرؤية التي غَدتْ موضوعاً لنظرته التحديقية التي لم يفارقها انبهارها بما رأته. وكانت النتيجة أنها لم تستطع أن تحرر نفسها معرفياً من حال التلقّي السلبي الذي لا يفارق إعجابه إلى حال التلقّي الإيجابي الذي يضع موضوع الإدراك أو الرؤية موضع المساءلة الجذرية. ولا فارق بين رفاعة الطهطاوي الشيخ وعلي مبارك الأفندي من هذا المنظور، وذلك بالدرجة التي تزيح الفارق بينهما وأحفادهما من الأفندية والمشايخ على امتداد الوطن العربي كله.