الجامعة العربية تطالب المجتمع الدولي بالعمل على إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة    «التجارة» تدعو إلى تصحيح أوضاع السجلات التجارية المنتهية تجنبًا لشطبها تلقائيًا بعد 30 يومًا من الإخطار    أمير الشرقية يهنئ رئيس المؤسسة العامة للري بمنصبه الجديد    اليوم.. طرح 1.545 مليار سهم من «أرامكو».. السعر بين26.7 و29 ريالاً للسهم الواحد    الراجحي يبحث عن الصدارة في بلاد «ميسي»    القيادة تهنئ رئيس الجمهورية الإيطالية بمناسبة ذكرى يوم الجمهورية لبلاده    انتصارات الهلال.. هل تهدد مستقبل رونالدو مع النصر؟    إدانة مواطن بجريمة تزوير شيكات تقدر ب أكثر من 34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    "فعيل"يفتي الحجاج ب 30 لغة في ميقات المدينة    3109 قرضا تنمويا قدمته البر بالشرقية وحصلت على أفضل وسيط تمويل بالمملكة    «الداخلية»: القتل تعزيراً لنيجيري هرّب الكوكائين إلى السعودية    الصناعة والثروة المعدنية تعلن تخصيص مجمعين لخام الرمل والحصى في بيشة    "مسبار" صيني يهبط على سطح "القمر"    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    الأهلي يلاقي الأهلي المصري في اعتزال خالد مسعد    تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة من مطار أبيدجان الدولي    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    كارفخال يشدد على صعوبة تتويج الريال بدوري الأبطال    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    البرلمان العربي يستنكر محاولة كيان الاحتلال تصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    جنون غاغا لا يتوقف.. بعد أزياء من اللحم والمعادن.. فستان ب «صدّام» !    عدا مدارس مكة والمدينة.. اختبارات نهاية الفصل الثالث اليوم    توجيه الدمام ينفذ ورشة تدريبية في الإسعافات الأولية    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    الإسباني" هييرو" مديراً رياضياً للنصر    فرنسا تستعد لاحتفالات إنزال النورماندي    التصميم وتجربة المستخدم    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    لهو الحيتان يهدد السفن في المحيط الأطلسي أرجعت دراسة ل "اللجنة الدولية لصيد الحيتان"، سبب    تحت شعار «أرضنا مستقبلنا».. وحشد دولي.. السعودية تحتفي ب«اليوم العالمي للبيئة»    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    إحباط تهريب 6,5 ملايين حبة كبتاغون في إرسالية "إطارات كبيرة"    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    «تراث معماري»    تكريم «السعودي الأول» بجائزة «الممارسات البيئية والحوكمة»    تعزيز العلاقات الاقتصادية مع ايطاليا    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    روبوتات تلعب كرة القدم!    المملكة تدعم جهود الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    آرسنال يقطع الطريق على أندية روشن    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    ورشة عن سلامة المختبرات الطبية في الحج    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    بلد آمن ورب كريم    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الحياة" في جنوب السودان الذي يستعد لسلام وشيك ... وأسئلة في الوحدة والانفصال . حركة قرنق تباشر إعادة الاعمار وشق الطرق في غابات "السودان الجديد"
نشر في الحياة يوم 02 - 12 - 2003

الدخول الى جنوب السودان حيث المناطق التي تسيطر عليها "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة جون قرنق هو اشبه بدخول دولة مستقلة. فمن العاصمة الكينية نيروبي كان لا بد من رحلة في الطائرة الى مطار لوكي تشوكيو شمال شرقي كينيا، ومن ثم الاقلاع بطائرة اخرى الى الجنوب.
وهناك نحو 40 رحلة أسبوعياً من لوكي تشوكيو الى مناطق سيطرة قرنق، من بينها طائرات تابعة للامم المتحدة لنقل المساعدات الانسانية عبر برنامج "شريان الحياة"، وطائرات لمنظمات دولية ومحلية تقوم برحلات الى جنوب النيل الأزرق والى جبال النوبة، كما تستأجر منظمات تطوعية اخرى طائرات من شركات خاصة.
مكاتب "الحركة الشعبية" في نيروبي وفي العاصمة الاوغندية كمبالا اشبه بالسفارات تمنح تأشيرات الدخول لمن يرغب في الذهاب الى المناطق الخاضعة لسيطرتها في الجنوب، وتعامل سلطات تلك الدول هذه الاذونات باحترام يفوق احترامها لجوازات السفر السودانية الصادرة من الخرطوم. فحامل الجواز الرسمي يخضع لإجراءات طويلة للتأكد من عدم صلته بالمنظمات المصنفة في "قوائم الارهاب"، وربما يُمنع من الدخول الى تلك الدول. واغرب من ذلك ان في الامكان عبور الحدود الكينية - الاوغندية بأذونات تصدرها "الحركة" فيما قد يحظر السفر على حاملي الجواز الرسمي ذي اللون الاخضر.
يقع مقر رئاسة قرنق في مدينة كبويتا التابعة لولاية شرق الاستوائية، داخل قصر متواضع على رغم اناقة البنيان الذي استعملت في تشييده موارد البيئة المحلية. اجواء السلام تخيم على المكان الذي يسوده الهدوء والطمأنينة، والاستعداد لمرحلة جديدة في تلك البقعة من الارض التي شهدت اشرس المعارك على مدى 20 عاماً، هي عمر حرب الاخوة الضروس التي ضربت الرقم القياسي فى الحروب الافريقية.
مفاوضات
المحاربون في "الجيش الشعبي لتحرير السودان" الذراع العسكرية للحركة الشعبية يقفون على حافة السلام. اسكتوا فوهات بنادقهم في انتظار استئناف مفاوضات السلام نهاية الشهر الجاري. لكن هل هم مستعدون للسلام؟
القائد شول بيار خريج كلية التربية في احدى الجامعات المصرية، ومن اوائل المحاربين الذين ساهموا في نقل الحرب الى الجبهة الشرقية عام 1996، وقضى في الجيش الشعبي 17 عاماً، قال ل"الحياة" حين التقيناه في شرق الاستوائية غرب مدينة كبويتا: "نحن نرحب بالسلام... ليس هناك من يتمنى استمرار الحرب. لكننا نريد سلاماً عادلاً يسد المنافذ امام تجدد القتال". لكنه استدرك قائلاً :"لن نسلم سلاحنا وسنحرس به السلام حتى لا نعود الى الحرب".
ويؤكد بيار ان "الوحدة هي التي نسعى إليها... نحن لسنا ضد الشمال، وانما ضد سيطرة الدولة المركزية في الخرطوم ونؤمن بأن هناك مناطق في الشمال اكثر تهميشاً من مناطق في الجنوب ولدي تجربة في مناطق البحر الاحمر وكسلا تجعلني واثقا من كلامي".
الملازم وليام دينغ الذي اصطحبني في سيارة مع النقيب عبدالباقي محمد مختار وآخرين، اكد انه امضى اكثر من عشر سنوات في "الجيش الشعبي" حين فر من منطقته وهو لم يتجاوز الستة عشر عاماً ووجد الفرصة سانحة لمواصلة تعليمه لكنه التحق بقوات قرنق واصبح مقاتلاً حتى اليوم. اكد رغبته فى السلام، وقال: "من يريد الحرب اللعينة؟ انا لم التق بأسرتي الا العام الماضي! لكن لن نفرط في السلام ولن نجعل التاريخ يعيد نفسه".
ومختار الآتي من مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة في وسط السودان هو خريج قسم الاخراج والتمثيل من معهد الموسيقى والمسرح وشاعر وروائي له اعمال لم تنشر، سألته عن مصيره اذا انفصل الجنوب عن الشمال بعد الاستفتاء على حق تقرير المصير فأجاب :"انا فرد، ويجب ان نتحدث عن مصير شعب بأكمله وأؤكد انني لو منحت حق الاستفتاء ولم تتغير الامور وظل التهميش والاستعلاء كما هو حاصل سأقترع الى جانب انفصال الجنوب من دون تردد". وشكك مختار في التزام الحكومة السلام، كما لم يخف استعداده لمواصلة القتال الى جانب "الجيش الشعبي" مرةً اخرى اذا انهارت مفاوضات السلام الجارية في نايفاشا بين الحكومة و"الحركة الشعبية" على رغم انضمامه اليها منذ اكثر من 12 عاماً ومشاركته في عمليات كثيرة اهمها في شرق السودان وقيادته قوة خاصة قطعت طريق بورتسودان - الخرطوم اكثر من مرة عام 1999.
واللافت ان العناصر الشمالية في "الحركة الشعبية" هي الاكثر تشدداً في رفضها لسلام مشكوك في عدالته. فالرائد هاشم بدرالدين لاعب "الكاراتيه" الشهير لا يخفي انتقاده لاتفاق مشاكوس وغضبه مما يعتبره تنازلات "قدمها الوفد المفاوض من الحركة للجبهة الاسلامية". ويتساءل: "كيف يمكن ان نثق بهؤلاء وسمتهم نقض المواثيق والعهود؟". وقلل المقدم ياسر جعفر الموجود في الشرق ايضاً من أهمية التساؤل عن مصير العناصر الشمالية في "الحركة" بعد انفصال الجنوب بقوله: "نحن سنذهب لكن الوطن هو الذي سيبقى ويكفي اننا قاتلنا من اجل الوحدة". اما القائد ياسر عرمان الناطق باسم "الحركة الشعبية"، فأكد لصحافيين من الخرطوم بأنه سيذهب الى الشمال، وان ليست لديه مشكلة في ان يختار الشمال او الجنوب. و"الوطن ليس ملك احد".
في الطريق الى ضواحي كبويتا كان لافتاً وجود بلدوزرات وعمال منهمكين يشقون طريقاً وعراً. إذ تقوم شركة كينية بشق الطريق من كبويتا الى توريت حتى مدينة جوبا كبرى مدن الجنوب. وأكد قرنق ان "الاولويات هي انجاز السلام عبر المفاوضات، ثم التركيز على تطوير الحركة الى حركة سياسية قومية لكل السودانيين واجراء المصالحة الجنوبية من خلال الحوار الجنوبي - الجنوبي... وسيكون التركيز بالنسبة الينا كحكومة في الجنوب بعد انجاز السلام هو التنمية وسنبدأ بالبنى التحتية. ففي الجنوب لا توجد طرق ولا جسور، ومن غير هذا لا يمكن القيام بعملية تنمية، اضافةً الى الكهرباء والطاقة والاتصالات لا سيما اننا نعيش الآن في قرية كونية ولا بد من ان نكون جزءاً من العالم".
وعلمت "الحياة" ان شركة اتصالات المانية دخلت الى مدينة رومبيك من طريق احد رجال المال السودانيين، وبدأت تأسيس شبكة للاتصالات الدولية والداخلية. وفي هذا الشأن قال عرمان: "نتوقع ان تتم عملية الاتصال بنا في رومبيك عبر شبكتنا الداخلية قريباً من اي مكان من العالم".
وفي السياق التنموي ذاته، كانت وزيرة التعاون الدولي النروجية هيلدا جونسون اكدت للصحافيين في نايفاشا الكينية انها تحمل عروضاً كثيرة للتنمية واعادة اعمار ما دمرته الحرب في الجنوب فور توقيع اتفاق السلام. وهو الاتجاه ذاته الذي تخطط له دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، لا سيما ان الجنوب يزخر بالنفط والغابات والثروة الحيوانية والمعادن.
التنقيب عن الذهب
حين توقفت بنا السيارة في منطقة ناروس اكد لنا السكان ان الوادي الذي نقف فوق احد جسوره مليء بمعدن الذهب. هنا ينشط بعض افراد قبيلة التبوسا في التنقيب عن الذهب يدوياً. يحفر الفرد الارض الرملية بسهولة ثم يغرف من الرمال في غربال كبير يطمره بالماء لتسقط ذرات الرمال وتبقى سبائك الذهب عالقةً فوق الغربال... يجمعون الذهب ويبيعونه في الاسواق الكينية بأسعار زهيدة يشترون بها الابقار والخمور المستوردة.
والتبوسا واحدة من اكبر القبائل التي تقطن شرق الاستوائية، وتتداخل مع مجموعة من الاصل ذاته في كينيا وأثيوبيا واوغندا، وهي قبيلة بدائية لا يزال بعض افرادها يعيشون عراة، فيما ترتدي النساء قطعاً تستر النصف الاسفل للجسد حتى اعلى الركبتين ويتركن الصدور عاريةً. ويقسم التبوسا الادوار بين النساء والرجال بطريقة عفوية، اذ تقوم المرأة بالأعمال المنزلية والشاقة كذلك، فيما ينحصر دور الرجال في جمع الأبقار. وللتبوسا اعتقاد راسخ بأن كل ابقار العالم هي ملكهم لذا يشنون الغارات على كل القبائل في الجنوب وفي الدول المجاورة بحثاً عن ابقارهم الضائعة. وتصادف اثناء وجودي ان شن التبوسا هجوماً على اشقائهم الكينيين راح ضحيته نحو عشرين شخصاً من الطرفين. وتستخدم الابقار كمهر في الزواج حيث يراوح مهر الفتاة بين 25 بقرةً وثلاثين، كما يوزع العريس ابقاراً لاقارب العروس مثل اعمامها واخوالها.
ويشترك التبوسا مع عدد من القبائل الجنوبية مثل الدينكا اكبر القبائل في الاهتمام بالابقار والتفاخر بما يملكه الفرد من ثروة، وما يدفعه من مهر لعروسه. ويشتهر التبوسا بشراستهم ومهاراتهم القتالية على رغم عزوفهم عن الدخول في الجيوش النظامية، ويدينون بالمسيحية والاسلام ومعتقدات اخرى.
سوق ناروس
يعرض البعض في سوق ناروس الصغيرة البائسة سلعاً بسيطة للبيع. القدرات الشرائية ضعيفة للغاية، والسكان يعتمدون على المواد الاغاثية التي تمنحها المنظمات الدولية وتشرف مفوضية السودان للاغاثة والتعمير على توزيع احتياجات السكان من غذاء ودواء في معسكرات النزوح. الاجساد منهكة وعارية، والطموحات بسيطة وغالية... وهي السلام.
ميري قالت انها تربي سبعة من الاطفال بعدما مات الوالد في الحرب. وتمنت ان يختفي ازيز الطائرات ودوي المدافع الى الابد حتى ينعم الناس بالاستقرار ويمارسوا حياتهم الطبيعية. ومحمد شول قال: "انا مسلم ولا اكره الشمال، لكن ارجوهم ان يتركوا الناس على حالهم. المسلم مسلم والمسيحي مسيحي... الاسواق كاسدة بسبب الحرب والحياة قاسية جداً".
ست عملات متداولة
يستخدم الناس في هذه المنطقة ست عملات هي الدينار السوداني والشلن الكيني والشلن الاوغندي والبر الاثيوبي، خصوصاً فى جنوب النيل الأزرق واعالى النيل وشرق الاستوائية، كما يتداولون الدولار الاميركي والجنيه السوداني القديم الذى يحمل صورة الرئيس السابق جعفر نميري، والذي الغي التعامل به منذ سقوط حكم نميري قبل اكثر من 18 عاماً. ولهذا السبب تصر الحركة الشعبية على توزيع عملة جديدة هي "جنيه السودان الجديد". وعرضت قيادات "الحركة" نماذج من تلك العملة الجديدة على مراسل "الحياة". وتعد قضية العملة واحدة من القضايا الشائكة التي تعرقل المفاوضات بين الخرطوم وقرنق ضمن قضايا البنك المركزي والنظام المصرفي.
في الجنوب اكثر من ثلاثة آلاف مدرسة ابتدائية ومتوسطة وثانوية. كما توجد كلية جامعية فى رومبيك وفرع لها في يامبيو تهدف الى التدريب على الزراعة والمحاسبة والتعليم. المدارس التي زرناها تدرس بالانكليزية وتعتمد المنهج الكيني في التعليم. سألت مديري المدارس عن غياب المنهج السوداني وكيفية ربط التلاميذ والطلاب بتاريخ السودان وجغرافيته؟.
مفوض التعليم في المجلس الوطني التنفيذي للحركة الشعبية كوستي مارابي اشار الى ان تلك المدارس هي مدارس خاصة تابعة للكنيسة، اضافةً الى ان التعليم كان توقف بسبب الحرب لسنوات عدة، ولما طال امد الحرب قررنا انقاذ مستقبل ابنائنا من الجهل والضياع ففتحنا بعض المدارس وواجهتنا مشكلة الحصول على المنهج السوداني المستخدم، وعلى رغم ذلك أعددنا منهجاً سودانياً خالصاً يطبق في السودان الجديد.
المناطق الثلاث
كانت قضية "المناطق الثلاث المهمشة" من ابرز قضايا مفاوضات السلام السودانية تعقيداً. وكانت الحكومة حتى وقت قريب ترفض ادراج القضية فى اجندة المفاوضات التي ترعاها الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد وشركاؤها الغربيون الولايات المتحدة والنروج وبريطانيا وايطاليا، وهي مناطق تقع وفق الحدود التقليدية في الشمال. ويقصد بها النيل الأزرق وجبال النوبة وابيي. فيما تشدد الحركة الشعبية على مناقشة قضايا تلك المناطق وترفض توقيع أي اتفاق سلام لا يتضمن حل قضية المناطق المهمشة.
حاكم جبال النوبة القائد عبدالعزيز آدم الحلو يقول: "المشكلة ليست جبال النوبة، وانما المشكلة هي في المركز في الخرطوم وما تتبعه من سياسات خاطئة والتي ولّدت الحروب والمجاعات والبؤس. لكن اذا تحدثنا عن جبال النوبة، فالتهميش ليس قاصراً على البعد الجغرافي فقط. وانما هو تهميش عرقي ولوني وديني، وتمكن معاينة ذلك في غياب التمثيل السياسي للنوبة، اذ انه خلال 28 عاماً من عمر السودان المستقل لم يتم تمثيل النوبة مطلقاً في الحكومة المركزية، اما في بقية الفترات المتبقية فتم تمثيلها بوزير واحد في كل حكومة بدلاً من 15 منصباً سيادياً يستحقها النوبة في المركز وذلك بناءً على التعداد السكاني الذي يمثل فيه النوبة 12 في المئة من مجموع السكان، اذ يبلغ عددهم 4.5 مليون شخص، بما في ذلك عرب الحوازمة والمسيرية والنازحون من القبائل الافريقية الى منطقة النوبة. اما عن مشاركتهم في تسيير شؤونهم فحدث ولا حرج، فمن عمر ال47 عاماً هي عمر السودان المستقل لم يحكم خلالها النوبة انفسهم طوال 34 عاماً، وفي ال13 عاماً التي شاركوا فيها بمحافظين او ولاة، فإنهم غالباً ما كانوا ينتمون الى أيديولوجيا سلطة المركز ويقومون بسياسات معادية لشعوب النوبة. ويتساءل الحلو: "هل تعلم انه طيلة عمر استقلال السودان لم يوجد سفير نوباوي واحد، او وكيل وزارة؟! اما الجيش الذي اشتهر بغالبية نوبية في فترات عدة فلم يحدث ان تسلم قيادته او هيئة اركانه او قيادة احد اسلحته الاستراتيجية كالمظلات او المدرعات. ولا اريد ان اتطرق الى رئاسة الدولة لانها مقفولة تماماً امام النوبة".
وتطرق الحلو الى غياب الممارسة الديموقراطية عموماً في السودان وابعاد النوبة منها، او وقوفهم في احسن الاحوال في موقف المتفرجين متهماً في الوقت نفسه الحكومات المركزية "بتبني سياسات متعمدة تهدف الى طمس الهوية النوبية والعمل على اعادة انتاج النوبة داخل ثقافة منظومة السلطة ثم جاءت الحكومة الحالية فاستغلت الدين للتفرقة بين النوبة واضعافهم والقضاء عليهم والاستيلاء على اراضيهم، فأعلنت الجهاد على النوبة كافةً بمن فيهم المسلمون والمسيحيون فنتج من ذلك استباحة واضطهاد وتدمير للمؤسسات وتهجير قسري، وازدادت الاوضاع تعقيداً بمسألة فرض الشريعة الاسلامية في بلد متعدد الاديان. واذا اخذنا جبال النوبة وحدها يوجد فيها اكثر من 81 من الاديان من بينها الاسلام والمسيحية واديان اخرى . وهناك السياسات الاقتصادية التي وزعت اكثر من سبعة ملايين فدان الى تجار من خارج المنطقة والى قيادات الجيش مما اضطر السكان المحليين الى النزوح الى مدن الشمال بعدما اصبحت المنطقة طاردةً فلا يوجد شارع واحد معبد في المنطقة التي تبلغ مساحتها 92 الف كيلومتر، كما انه لا يوجد سوى مصنع واحد للنسيج وهو متوقف منذ عشر سنوات وغيرها من البنى التحتية".
وعن مطالب ابناء جبال النوبة التفاوضية يشير الحلو الى "منح حق تقرير المصير لكل الشعوب السودانية بما في ذلك قبيلتا الجعليين والشايقية - وهما قبيلتان متهمتان بالهيمنة على بقية القبائل الاخرى وينتمي اليهما الرئيس عمر البشير ونائبه الأول علي عثمان محمد طه - وبناء السودان على اسس جديدة، وان تكون المرحلة الانتقالية اختبار لجدية القوى السياسية، وجعل خيار الوحدة خياراً جاذباً. واذا ما تحققت الوحدة الطوعية يجب ان تقوم هذه الوحدة على اقصى درجات اللامركزية لتحقيق دعائم الوحدة المعافاة في وقت ما في المستقبل. فالسودانيون ليسوا في عجلة من امرهم، والمهم هو الاتفاق على الاسس المشتركة والعدل".
وانا اغادر جنوب السودان" او "السودان الجديد" كما تطلق عليه عناصر الحركة تقافزت التساؤلات عن مستقبل السودان وموقف الجنوبيين من الوحدة؟. البعض يشكك في امكان الوحدة بعد تجارب مريرة، والمسؤولون الحكوميون يعتبرون ان قرنق يعد العدة لدولته الجديدة من طريق احتفاظه بجيشه وسحب الجيش الحكومي من الجنوب كما ورد في اتفاق الترتيبات الامنية، ويعتبرون المطالبة بمصرف مركزي منفصل للجنوب واصدار عملة خاصة اشارة اخرى الى قيام الدولة الجديدة.
لكن قرنق برر ل"الحياة" الخطوات العسكرية بأنها ضمانات من ضمانات الاتفاق النهائي حتى لا تتكرر تجربة اتفاق اديس ابابا في 1972 بين نميري وحركة "الانانيا الاولى"، وان المطالبة بعملة هو مطلب موضوعي فرضته الظروف في منطقة يتم تداول ست عملات فيها، كما انه لا يمكن ان نقبل بالدينار الذي اصدره الرئيس عمر البشير بدلالة اسلامية واتفاقية مشاكوس تنص على حكم الجنوب علمانياً. وعن الاصوات الانفصالية داخل الحركة وتأثيرها، قال قرنق "احياناً الذين ينادون بالانفصال ليسوا انفصاليين، لكنهم يستخدمون ذلك كتكتيك لتحقيق مطامع شخصية. ولا يمكن ان تسأل شخص سؤالاً مباشراً: هل انت مع الوحدة ام مع الانفصال؟ لا بد من موضوع وتفاصيل وبرامج لتحقيق الوحدة. واذا ما اجرينا استفتاءً في مثل هذه الظروف فالغالبية ستصوت الى جانب خيار الانفصال. لكن هذه الغالبية ذاتها ستقف الى جانب الوحدة، اذا وضعنا برامج لبناء السودان الجديد القائم على اسس جديدة وديموقراطية حقيقة. يجب ان تكون الاولوية للسودان الجديد.
قبل المغادرة ترامت الى مسامعنا انغام موسيقى عسكرية تعزف النشيد الوطني ذاته المستخدم في الخرطوم"... نحن جند الله .. جند الوطن..."، عرفت انهم يستخدمون الشعار نفسه، فسألت لماذا؟ قالوا نحن لم نخرج على السودان وانما رفضنا الظلم والتهميش فكنا نقاتل من اجل المساواة والعدل والسودان الجديد. وفي الطريق كانت السيارة التي تقلني مع وفد من قيادات التجمع الوطني الديموقراطي المعارض الذي زار جنوب السودان للمرة الأولى تشق الارض الوعرة بسرعة لا تتماشى مع سرعة السيارات في مناطق الحروب. تخيلت ان لغماً قد ينفجر في السيارة التي تتقدمنا. سألت احد القادة في الحركة الشعبية عن الالغام المزروعة في الغابات والطرق الوعرة، فأجاب: "لا احد يعرف عدد الالغام وخرائط توزيعها في الجنوب لأنها زرعت عشوائياً. الجميع كانوا يزرعون. الحكومة والميليشيات الموالية لها والميليشيات المتقاتلة في ما بينها. لكن الالغام لا تقل عن العشرة ملايين وهي لا شك ستهدد التنمية واعادة الاعمار اذا لم تكشف الخرائط التي توضح اماكنها بدقة ووضوح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.