لا شكّ في أن القرّاء العرب سمعوا، ولو بصورة عابرة، بإسم إميل زولا، رائد الطبيعيّة في الأدب، وأحد أشهر الكتّاب الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد ذهب بعض النقّاد والباحثين إلى إيجاد علاقات قرابة أدبية بينه وبين نجيب محفوظ، عميد الرواية العربيّة الذي ظهر بعده بنصف قرن... ومن لم يقرأ روايات مثل "الأرض" أو "نانا" أو "أحشاء باريس"، أو يشاهد الفيلم الشهير عن عمّال المناجم في الشمال الفرنسي الذي اقتبس عن روايته "جيرمينال" إخراج كلود بيري... سمع على الأقلّ بموقفه الشجاع من "قضيّة درايفوس" التي غيّرت مجرى الحياة الفكريّة والسياسيّة في فرنسا، ووصلته أصداء معركة زولا الشهيرة دفاعاً عن براءة ذلك الضابط في الجيش الفرنسي الذي حوكم بتهمة بالخيانة العظمى، وبتسليم وثائق خطيرة للألمان... وكان أن جرّد من رتبته العسكريّة، واقتيد إلى السجن 1894، استناداً إلى أدلّة ملفّقة ضدّه كما ثبت لاحقاً، إذ تمت تبرئته وأعيد إليه الاعتبار بعد إثني عشر عاماً على محاكمته. وفي غمرة تصاعد موجة اللاساميّة في فرنسا، بدا انتماء درايفوس إلى الديانة اليهوديّة مصدر الشبهات الأساسي حوله، بل والدليل القاطع على ارتكابه فعل الخيانة. وانقسم المشهد الفكري والثقافي الفرنسي ذلك الحين، ولسنوات طويلة تلت، إلى مناصر لدرايفوس ومعاد له... برز إميل زولا يومذاك بمقالته الشهيرة في جريدة "لو فيغارو"، بعنوان "إنّي أتّهم" التي أطلقت "قضيّة درايفوس"، واعتبرت اعلان الولادة الرسميّة ل "المثقّف" على الطريقة الفرنسيّة، أي المثقّف المنشغل بقضايا مجتمعه وعصره، والذي يلعب دوراً في مجرى الأحداث السياسية. ولعلّ هذا الموقف الذي اشتهر به زولا... هو الذي كلّفه حياته! هذا على الأقلّ ما يؤكّده اليوم خبراء وباحثون وجامعيّون، درسوا كل الوثائق والشهدات المتوافرة عن موته، واستندوا إلى تحقيقات ميدانيّة إجريت أوائل الخمسينات، وشكّكت منذ ذلك الوقت بنظريّة الميتة الطبيعيّة التي وردت في تقرير الشرطة. والمعروف أن إميل زولا مات اختناقاً بثاني أوكسيد الكربون، ليلة 28 إلى 29 أيلول سبتمبر 1902، في مخدعه الباريسي، فيما نجت زوجته ألكسندرين بأعجوبة. واعتبر أن السبب هو مدخنة الموقد التي لم يتمّ تنظيفها كما ينبغي، ما منعها من تصريف الهواء السام. ومرّت سنوات قبل أن ترد إلى صحيفة "ليبراسيون" الباريسيّة، بُعيْدَ الذكرى الخمسين لرحيل زولا، رسالة من قارئ يدعى بيار هاكين، هو صيدلي متقاعد، تؤكّد أن الكاتب الشهير ذهب ضحيّة "اغتيال سياسي". كشف هاكين في رسالته أنّ صاحب شركة متخصصة في تنظيف المداخن، يدعى جاك بورونفوس، أسرّ إليه ذات يوم من العام 1928 قبل أسابيع من موته، أنّه تولّى شخصيّاً سد مدخنة غرفة زولا تلك الليلة، قبل أن يعود فيفتحها صباح اليوم التالي. وخاض يومها جان بوديل، وكان صحافياً شاباً في الجريدة المذكورة، تحقيقاً ميدانياً حول القضيّة، والتقى الصيدلي المتقاعد صاحب الرسالة، وتقصّى عن حياة جاك بورونفوس، وتوصّل إلى قناعة تامة بأن صاحب "الأرض" مات مقتولاً. وهذه الاستقصاءات التي أجريت العام 1953، صدرت في كتاب من تأليف جان بوديل بعنوان "اغتيال زولا" منشورات فلاماريون. وقام أخيراً جامعيّان يعتبران من الاختصاصيين المرجعيين في أدب زولا وحياته، بأبحاث واستقصاءات اضافيّة، تؤكّد هذه النظريّْة. وقدّم كلّ من الفرنسي ألان باجيس والكندي أوين مورغان، مؤلفا كتاب "الدليل إلى حياة وأدب إميل زولا" منشورات إليبس، تقريراً بعنوان "ملفّ بورونفوس تابع"، إلى ندوة تورنتو التي نظمها "مركز إميل زولا" الكندي، أخيراً، في ذكراه المئويّة. يكشف التقرير معطيات جديدة، بدءاً بتفاصيل من حياة جاك بورونفوس الذي كان ينتمي إلى "رابطة الوطنيين" المعروفة بمواقفها اللاساميّة والمعادية لدرايفوس... وقد أضاف قاتل زولا المفترض، لاحقاً، اسم "إميل" إلى سجلّ نفوسه، ليجعله اسماً مختلقاً لأبيه هو الذي لم يكن يعرف هويّة والده. وتجدر الاشارة إلى أن زولا تعرّض لتهديدات كثيرة في سنواته الأخيرة، وأن حادثة مشابهة وقعت لمدخنته عام 1899، علّق عليها في احدى رسائله: "انبعث دخان فظيع، حتى خلنا أن حريقاً نشب في المنزل ... وعبّر ديمولان عن اعتقاده أن المعادين لدرايفوس، صعدوا إلى السطوح لسدّ مداخننا...". وكانت قنبلة وضعت العام 1901، أمام المنزل الذي كان يشغله زولا "الخنزير القذر، المرتهن لليهود"، لكنّها لم تنفجر... وفي كلّ الأحوال، مات إميل زولا اختناقاً، نتيجة خطأ بشري، متعمّد أم لا، مثل بطل روايته "الدكتور باسكال" 1893، كملا لاحظ أحد النقاد الفرنسيين. يصف زولا مشهد موت بطله كالآتي: "إثر شعوره بالاختناق، نهض الدكتور باسكال فجأة، قفز خارج السرير. كان يريد أن يقف، أن يمشي. حاجة ماسة إلى الهواء قذفته إلى الأمام. وقع. أراد أن يتنفّس. من دون جدوى راح يمدّ شفتيه في اتجاه الهواء الذي كان ينقصه، فاتحاً فمه المسكين نصف فتحة، مثل منقار عصفور صغير".