كثر الحديث في العقد الأخير عن "نهاية الفلسفة" و"نهاية الشعر" أو "نهاية التاريخ". ولا أدري إذا كانت النهايات بأطرافها الزمنية تحمل مقاربة أو استدعاء لمفاهيم النهاية في حقول المعرفة الإنسانية التي مر ذكرها وفلسفة النهاية وحضورها كطقس حياتي بشري. ولكن في غمرة التحولات القائمة على محاور نهايات زمنية وسياسية وفكرية، إذا أخذنا في الاعتبار ان نهاية الألفية تواكبها نهاية المعسكر الاشتراكي ونهاية الفكر الشيوعي، الى ما جر ذلك من نهايات ما زالت تتراكم امامنا بكل الدلالات والانعكاسات على حياتنا، فإنها لا تبدو مجرد مفارقة تلك العلاقة بين كل اشكال هذه النهايات وتقاطعها على شاشة هذا العصر الجديد الذي سأختار له اسم "العصر الاحتفائي"، وهو مصطلح أطلقه الكاتب والمؤرخ الفرنسي فيليب ميريه Philipe Muray في كتابه الأخير "ما بعد التاريخ"، حيث يشير الى مؤشر مهم سمّاه "نهاية الإنسان التأريخي" وهيمنة "العصر الاحتفائي" الهوموفيستيفوس Homo Festivus كمرحلة جديدة في التطور البشري ابتداء من العصور الحجرية والبرونزية... الى "الاحتفائية". يؤكد ميريه Muray على الهيمنة والانتشار اللافت لروح الاحتفال Festivitژ وشيوع مناسباتها وطقوسها وأشكال ممارساتها عبر العالم وكأنها رموز آلهة وثنية جديدة، فمن الرموز الدينية عيد نويل/ الميلاد، الكرسمس Noel الى الرموز السياسية، الأيام الوطنية، الى الأعياد الاجتماعية والنقابية والطبيعية لكل المجتمعات والطوائف والأوطان يضاف الى ذلك الاحتفالية المتصاعدة والمهيمنة المرتبطة بأعراس كرة القدم والتنس مروراً بالألعاب الأخرى حتى الدورات الأولمبية وآخرها ما نشهده اليوم في سيدني هذا العرس الرياضي المذهل والذي وُظّفت له أعظم الطاقات المادية والتقنية ليكون بمثابة طقس الحج الوثني الأكبر لكامل شعوب الأرض. إضافة الى ما رافق ذلك وما تبعه من احتفالات وأعياد وطقوس حيث هيمنت هذه الاحتفائية الرياضية على سواها من الاحتفائيات الدينية والسياسية. يقدم الكاتب نموذجاً فرنسياً مهماً على صعود الروح الاحتفائي الرياضي وغلبته على اعلى رموز الاحتفالات السياسية والدينية وسواها وهو احتفال 14 تموز/ يوليو الذي يعد أعظم رمز تاريخي سياسي فرنسي ممثل بسقوط الباستيل قبل مئتي عام فيذكر أنه هو الآخر قد سقط تحت أقدام المحتفلين بيوم فوز فرنسا بكأس العالم في كرة القدم يوم 12 تموز 1999 فيقول: "بعد إنسانية الديمومة التأريخية تأتي احتفائية الزمن الما بعد التأريخي. إن سيطرة الإنسان الاحتفائي Homo Festivus على التقويم الزمني قد تمت في شكل مؤكد ولكن تدريجي. إن مواعيد الأعياد التي هي في الغالب دينية أو قومية والتي كانت تنظم مسيرة المغامرة الإنسانية السالفة، قد وجدت نفسها مفرّغة شيئاً فشيئاً من معناها القديم لتمتلئ من جديد بحماسة احتفائية. فقد مضى زمن طويل، إذا ما أخذنا مثالاً واحداً دون سواه، لم يعد فيه العيد الذي لا ىُحتمل، عيد نويل الميلاد، عيداً للطفل - يسوع، ليصبح عيداً للطفل فقط، للطفل الحالي، للطفل المعبود". إن صعود هذا الروح "الاحتفائي" واشتراكه عبر رموز الرياضة تارة في كل أنحاء الأرض أو بانتقال الاحتفالات ذات المدلول الديني عن مضامينها الدينية لتطغى على كل القوميات والطوائف قد شكل الظاهرة التي بدأت تتبلور في العقدين الأخيرين من الألف الميلادي الثاني ومطلع الألف الثالث مستندة بالطبع الى حركية "العولمة" وانتشارها لتكون بالأحرى إحدى ملامحها الكبيرة وغير الملحوظة على الأقل في الحوار والنقاش الدائر حول العولمة في عالمنا العربي. لكن أفكار ميريه لا تتوقف عند هذه النقطة بالذات وهو يعتبر ظاهرة الهوموفيستيفوس Homo Festivus أي الإنسان الاحتفائي تأتي كنتيجة لتطور بشري اجتماعي مهم وهو ما يسميه "نهاية الإنسان التأريخي" ويذهب أبعد من فوكوياما الياباني الأميركي الذي يقول بنهاية التأريخ فيذكر بأن: "الإنسان الذي وجد على الأرض منذ بدء مرحلة ما قبل التأريخ قد انتهى" وبدأ العد من الصفر الى انسان جديد لا ينتمي الى مراحل التطور ما قبل التأريخية والتأريخية التي عرفناها. أي أننا نعيش اليوم مرحلة ولادة إنسان لا تاريخ له، إنسان يولد بمضامين ورؤى ومرجعيات آتية من حاضر جنين مرتبط بحبل سري لأمه "المستقبل" هذا المستقبل الأم يتطور بسرعة لم تعرف لها البشرية مثيلاً. ويذهب في تحليله لهذه الظاهرة بالتأكيد على نقطة في غاية الأهمية وهي ضمور مفهوم السالب - أي السلبي في نقد التأريخ والحياة - ويقول: "إن فكرة السلبي كانت تشكل محركاً لا يُستغنى عنه في عملية الخلق التأريخي. هذه الظاهرة تتلاشى اليوم وتضمر شيئاً فشيئاً، لتحل محلها ديكتاتورية الإيجابي الكوني التي يعبر عنها في شكل واضح الروح الاحتفائي وهو بدوره يمارس ما يسمى بالاندماج القسري للتنوع والتفرد الإنساني. إن ديكتاتورية الإيجابي الاحتافي التي تطغى على الحياة البشرية اليوم هي القناع أو الرداء الأبهى الذي ترتديه مرحلة ما بعد التأريخ. ويستشهد فيليب ميريه بالكاتب الأميركي جون آدم الذي يتطلع الى ولادة "جمهورية فاضلة ونقيّة قدرها ان تحكم الأرض من أجل صوغ الإنسان الكامل". إن مرحلة ما بعد التأريخ هذه في نظر Muray هي نهاية الإنسان التأريخي الذي نحن آخر أشكال تحققه وأقصد ب"نحن" هذا الجيل الذي ينتهي على عتبة الألف الثالث... وهي أيضاً نهاية المعنى ونهاية الروح. لكن الأمر يبدو أدهى من كل هذا فإننا الآن قد دخلنا فعلياً هذه المرحلة وقد صارت حقيقة منجزة كما يقول ميريه: "الكارثة صارت الآن خلفنا. ويجب ان نصدّق بأننا غير قادرين على فعل شيء اليوم سوى أن نحصي جراحنا أو نحُكّها. ولا جدوى أن نأخذ هذا الأمر في شكل مأسوي "تراجيدي". لأن التراجيدي "المأسوي" لم يعد في متناول ايدينا فقد اندحرت واختفت هذه الظاهرة مع اختفاء الإنسان التأريخي". وهنا يضيف ميريه عنصراً جديداً لنظريته في اختفاء الإنسان التأريخي وهيمنة الهوموفيستيفوس والتي هي بحد ذاتها تفجير بطبيعة زلزالية داخل كياننا الإنساني، هذا العنصر الجديد يظهر في قوله: "ليس في متناول أيدينا ان نكون مأسويين لأن المأساة كسلاح أو كأداء انساني هو الآخر سقط أثناء هذه القفزة النوعية للتطور البشري...". ان المراقب لحدثية العلاقات الإنسانية والدولية يكتشف الى أي مدى صدق مقولة ميريه، أي كارثة إنسانية نعيشها اليوم او عشناها قبل فترة كان لها مردود مأسوي تراجيدي على شعوبنا جمعاء. ألا يُقتل العراقيون بالآلاف يومياً ويُدفن جيل كامل لشعب حي امام أعين كاميرا "التأريخ" والإنسانية جمعاء من دون ان يكون لذلك أي رد ذي طبيعة مأسوية لا عربياً ولا عالمياً. ألم تتحول رواندا الى بحيرة دماء لانتقامات عشائرية - بنصف المليون قتيل ملأت الشاشات في كل مكان والبشرية تراقب ذلك عبر موائدها وسهراتها واحتفالاتها! ألم تحترق بلاد الشيشان وتتحطم عاصمة غرونزي بكاملها فوق أهلها ليتحول كل شيء الى ركام والبشر الى رماد تحت أقدام الدبابات الروسية ونحن نشهد ذلك كحلقات في مسلسل تلفزيوني "حي"! ألم تُصفّ كوسوفو البلقانية وتحترق القرى ويُقتل اللاجئون العزّل وهم في طرقات المنافي، وأوروبا ترقص وتردح في مناسباتها والنار والدم "الأوروبي" تحت أقدامها! ألم... ألم... حقاً إن عصر الهوموفيستيفوس قد تحقق وسار قطاره من دون ان نشعر ولا داعي للتفكير بشيء إلا بانتصارات الكرة والعدو وغيرها من الأعياد التي صارت آلهة الإنسان الهوموفستيفوس ورموز وثنيته الجديدة. في العصر المابعد التأريخي - يضيف ميريه لا تكون الحرب إلا شكلاً للاحتفائية المستمرة عبر وسائل أخرى خصوصاً عندما تقع في مكان آخر". إن رموز أو ملامح هذا العصر الاحتفائي لا توفر شيئاً لملء الفراغ الذي أحدثه غياب التأريخ. فكل شيء يصلح لردم هذه الكوة الهائلة ابتداء من الحبة الزرقاء "الفياغرا" الى "كسوف الشمس"، مروراً بمونيكا... كلها حشوات إعلامية صالحة للإيهام على القبر الكوني الذي ألقي فيه الإنسان التأريخي Homo Historus هوموهستيريوس ليقوم فوق أنقاضه الإنسان "الاحتفائي" هوموفيستيفوس. * شاعر عراقي. المشرف العام على "كتاب في جريدة" الذي تصدره اليونيسكو.