عبثاً تبحث في كتاب ابن ابي اصيبعة الأساسي "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" عن اسم ابن النفيس أو سيرته أو أي ذكر لواحد من كتبه، ولا سيما كتابه الذي يشرح فيه كتاب "القانون" لابن سينا. وهذا الأمر قد يبدو عادياً لولا ان ابن النفيس عاش في الزمن نفسه الذي عاشابن أبي اصيبعة، وتربى في المدينة نفسها دمشق وكان الاثنان معاً من طلاب الطبيب المشهور في ذلك الحين والمعروف باسم "الدخوار" وكان هذا طبيباً خاصاً للحاكم الأيوبي، الملك العادل. ومعنى هذا انهما كانا صديقين. فلماذا اغفل ابن أبي اصيبعة ذكر ابن النفيس؟ التفسير الوحيد هو عداوة الكار والتنافس بينهما. ومع هذا اذا كان ابن ابي اصيبعة اشتهر لاحقاً بأنه واضع واحدة من أوفى دوائر المعارف الطبية عن سير الأطباء في اللغة العربية حتى زمنه، من دون ان تشتهر، على وجه الخصوص كطبيب، فإن ابن النفيس اشتهر كواحد من أهم الأطباء في تاريخ العلوم العربية، كما اشتهر في تاريخ الطب العالمي بكونه "أول من اكتشف" حقيقة الدورة الدموية. وفي هذا الاطار عرف ابن النفيس، كما تفيدنا كتب تاريخ العلوم، كيف يدحض واحدة من النظريات الراسخة، وهي نظرية جالينوس المتعلقة بحركة مرور الدم داخل القلب نفسه، حيث أكد ابن النفيس، ما صار بديهة علمية بعد ذلك، وهو ان ثمة جداراً صلباً يفصل بين الجانبين الأيمن والأيسر من القلب، ما يعني استحالة انتقال الدم من هذا الجانب الى ذاك. والحال ان حركة الدم داخل القلب البشري كانت على الدوام الشغل الشاغل لعلماء، الطب، حيث ان ابقراط وجالينوس كانا أكدا ان منشأ الدم هو الكبد. واضاف جالينوس ان الدم يمر، اذ يصل بعد تكوّنه في الكبد، عبر القلب وفي داخله يمر من البطين الأيمن الى البطين الأيسر عبر ثقوب تملأ الجدار الفاصل بين البطينين. وهذه هي النظرية التي انتقدها ابن النفيس في كتابه الأشهر "شرح التشريح" حيث يدحض في طريقه نظرية ابن سينا حول هذا الموضوع بالذات، حيث ان ابن سينا كان يرى "ان في القلب ثلاثة بطينات، واحد أيمن يصل اليه الدم، وواحد أوسط يستعد فيه، وثالث أيسر يمتزج داخله بالهواء المحمّل بالروح الحيوية المقبلة من الرئتين". أما ابن النفيس فرأى ان الدم يأتي من الكبد الى البطين الأيمن حيث يلطف، ثم يمر في الشريان الرئوي ويصل الى الرئة حيث يتصفى قسم منه، ويذهب قسم آخر ليغذي الرئة. القسم الأول يختلط بالهواء المقبل عن طريق القصبة، ثم يعبر الى الوريد الرئوي حتى يصل الى البطين الأيسر حيث تتلون الروح التي تخرج منه الى الأورطي الأبهر فإلى الشرايين فالانسجة. وهذه الفقرة ننقلها هنا من تبسيط للنظرية كتبه الباحث السوري د. سلمان قطايا، في كتاب عن "ابن النفيس". على رغم ان هناك كتباً عدة معروفة لابن النفيس، يظل كتابه "شرح التشريح" الأهم بين كتبه. وهو، على اية حال، الأخير الذي اكتشف بين كتبه المهمة، حتى وان كان وجوده معروفاً منذ زمن. واللافت هنا هو ان ابن النفيس نفسه قد انتظر حتى آخر حياته قبل ان يضع مؤلفه هذا، الذي يعتبره الكثير من المؤرخين تتمة، أو أشكالاً لكتاب مهم آخر له هو كتاب "شرح القانون". وهذا الكتاب الأخير اعتبر دائماً مرجعاً، لأن ابن النفيس عمد فيه الى السير على خطى أساتذة الطب من قبله، حيث ان هؤلاء كانوا اعتادوا ان يشرحوا لتلامذتهم كتاب "القانون" لابن سينا، هذا الكتاب الذي كان المرجع الأساسي في علم الطب في تلك الأزمان، وظل يُدَرَّس في أوروبا حتى القرن الثامن عشر. فلأن "القانون" كان معقداً وصعباً على الفهم، كان أساتذة الطب يشعرون بضرورة وضع شرح له، وهذا ما فعله ابن النفيس. غير ان هذا الأخير سرعان ما تجاوز الشرح، إذ جمع في سياق واحد الكتابين اللذين يتألف منهما "القانون" وراح يشرحهما وينتقدهما، وينتقد من خلالهما معظم نظريات ابن سينا وجالينوس وابقراط. ويقول الدكتور سلمان قطايا ان فلسفة ابن النفيس في التشريح، والتي عبّر عنها هو نفسه في "شرح التشريح" هي الفلسفة الغائيّة المعتمدة على المناقشة العقلانية، حيث يقول: "ان لكل مخلوق كلمة إلهية في خلقته، قد يستطيع العقل الانساني ان يدركها وقد لا يستطيع. ولولا ذلك لكان هذا الوجود عبثاً وهو محال". وفي مجال الحديث عن أعضاء الجسم ومنافعها، ضمن نظريته الغائية، يقول ابن النفيس في "شرح التشريح": "وأما منافع كل واحد من الأعضاء، فإننا نعتمد في تعرفها على ما يقتضيه النظر المحقق والبحث المستقيم، ولا علينا وافق ذلك رأي من تقدمنا أو خالفه". في "شرح القانون" نجد ابن النفيس ينتقد ابن سينا لأنه فصل علم التشريح الى قسمين: تشريح الأجزاء المتجانسة في مقالة أولى، وتشريح الأجزاء المركبة في المقالة الثالثة. كما ينتقده على مقالته حول العقاقير المركبة. وانطلاقاً من هذا الانتقاد الذي رأى ابن النفيس انه أتى في "شرح القانون" غير واف بما فيه الكفاية، استطرد في "شرح تشريح القانون" ليعالج "القسمين المذكورين معاً". وهو، في طريقه، وعبر حديثه عن علم التشريح، وجد نفسه مسوقاً الى الحديث عن طبيعة الدورة الدموية الصغرى. وهذا الحديث هو سبب شهرته اللاحقة. ولكن لماذا اللاحقة؟ ببساطة لأن "شرح التشريح" كان مفقوداً، ولم يتم العثور عليه الا في العام 1920، وفي برلين تحديداً، على يد الطالب المصري محيي الدين التطاوي الذي كان يدرس في العاصمة الالمانية وعثر بالمصادفة كما يقول د. قطايا في كتابه المذكور آنفاً على مخطوطة تحمل الرقم 62243 وتحمل عنوان "شرح تشريح القانون". ورأى الطالب في متن المخطوطة وصفاً للدورة الدموية وتجاويف القلب يتطابق مع ما يعرفه القرن العشرون عن ذلك. وذهل العالم أمام اكتشاف كان المستشرق ماير هوف أول المشددين عليه. ومنذ ذلك الحين بلغت شهرة ابن النفيس الآفاق بوصفه مكتشف الدورة الدموية. ولد ابن النفيس، واسمه الكامل علاء الدين أبو العلاء علي ابن أبي الحزم القريشي الدمشقي، غير بعيد من مدينة دمشق في العام 1211. وإذ ترجع المصادر المختلفة نسبه "القريشي" الى قبيلة قريش العربية، نجد الدكتور قطايا ينسبه الى قرية دمشقية صغيرة يقول انها كانت تدعى قرش. وهو تربى في دمشق وصار باكراً من تلامذة الدخوار، اشهر أطباء عصره. وبعد ذلك توجه شاباً الى مصر التي عاش وتابع دراسته فيها، كما مارس فيها الطب، وغير الطب، لأن المراجع تقدمه لنا بوصفه "ذا سلطة في أحكام الدين والمنطق والشريعة". وهو اذ عمل في بيمارستان الناصري في العاصمة المصرية، راح يكتب الدراسات والكتب والمقالات في شؤون الطب كافة، من ملخصات في تطبيق طب العيون، الى شروح على ابن سينا وجالينوس وحنين بن اسحاق. وهو لئن كان حلم بأن يجمع كل علوم الطب في كراسات كان يريد ان يبلغ عددها 300 كراس، لم ينجز، كما يبدو سوى 80 كراساً. ومن أشهر أعماله الى "شرح القانون" و"شرح التشريح": "كتاب الشامل" و"كتاب الرسالة العالمية"، وغيرهما. ولقد توفي ابن النفيس في العام 1288، بعد رحيل صديقه ومنافسه ابن أبي اصيبعة ب18 سنة. وكانت وفاته في القاهرة.