«الترفيه»: ترخيص 1673 نشاطاً ترفيهياً بالمملكة في الربع الأول من 2024    المركز الوطني لسلامة النقل: لا يوجد ما يؤثر على سلامة أجواء الطيران في المملكة أو سلامة تنقلات الحجاج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    الجبير يلتقي وزير خارجية جمهورية كوستاريكا    الهلال ينتصر ودربه «سالم» أمام النصر    إطلاق برنامج تدريب وطني شامل لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب    وزير داخلية سلوفاكيا: الاشتباه في محاولة "ذئب منفرد" باغتيال فيكو    انضمام المملكة كعضو في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان    رئيسا روسيا والصين يوقعان بياناً لتعميق الشراكة الشاملة    الاتحاد يكشف تفاصيل إصابة ثنائي الفريق    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    البدر يضيء قاعة المركز الحضاري ببريدة    وظائف مدنية بالأمن العام في عدة تخصصات    بيان القادة العرب في قمة البحرين حول العدوان على غزة    48 مشروعا في الهندسة الطبية الحيوية والطاقة والنقل والمرور    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يسجل 83.63 دولاراً للبرميل    سمو محافظ الخرج يكرم الجهات المشاركة والرعاة لمهرجان الألبان والأغذية 2024    السعودية للكهرباء تعمل على تصنيع قطع الغيار بالهندسة العكسية وتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد    رئاسة السعودية للقمة العربية 32.. قرارات حاسمة لحل قضايا الأمة ودعم السلام    الشيخ بن حميد في منتدى "كاسيد": الإسلام يدعو للتسامح    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    " تطبيقية الرياض " تنظم المعرض السعودي للاختراع والابتكار التقني    أمريكا تعلن استكمال بناء الميناء البحري المؤقت في غزة    "كواي" ابتكارات عالية التقنية تعيد تعريف التفاعل عبر مقاطع الفيديو القصيرة    وقاية.. تقصّي الأمراض الخطرة وإعداد خطط الطوارئ    السعودية: ندين محاولة اغتيال رئيس وزراء سلوفاكيا.. نرفض كافة أشكال العنف    أمانة الشرقية تؤكد على المنشآت الغذائية بضرورة منع تحضير الصوصات داخل المنشأة    الكشافة تُدرب منسوبيها من الجوالة على "مهارات المراسم في العلاقات العامة"    جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تحتفي بالفائزين بجائزة "تاج"    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    اختتام الاجتماع الوزاري الثاني لمنتدى الحياد الصفري للمنتجين بمشاركة الدول الست الأعضاء بالرياض    نائب أمير الشرقية يستقبل وزير الاقتصاد والتخطيط    بتوجيه الملك.. ولي العهد يغادر لترؤس وفد السعودية في القمة العربية بالبحرين    «الأرصاد»: رياح شديدة السرعة على عددٍ من محافظات منطقة مكة المكرمة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    مدرب الأهلي يخضع فيغا لاختبارات فنية تأهباً ل"أبها"    "الخطيب": السياحة عموداً رئيسيّاً في رؤية 2030    سمو محافظ الطائف يرعى حفل افتتاح المجمع القرآني التعليمي النسائي    صفُّ الواهمين    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    حل وسط مع الوزراء !    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    السفير الإيراني يزور «الرياض»    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة : من "تهتدون" الى "تفلحون" كتاب الصادق المهدي 7 . من فرائد التجارب السودانية : حضور الديكتاتورية من دون ديكتاتور !
نشر في الحياة يوم 02 - 12 - 2000

يقدم السيد الصادق المهدي في هذه الحلقة تحليلاً شاملاً للوضع في البلاد حين عودته اليها، ويبدأ بقراءة موضوعية لنتائج حكم الرئيس عمر البشير خلال السنوات العشر الماضية وما آل اليه البلد لجهة التجربة الشمولية وما افرزته من انتشار لثقافة العنف والعنف المضاد الذي غذته التوجهات العقائدية.
ويدرس المهدي ايضاً التحولات في النسيج الاجتماعي السوداني والتغيير الديموغرافي والثقافي واثره على تشكيل صيغ المستقبل. ويعرض النتائج السلبية لحكم الانقاذ، لكنه لا يتجاهل ايجابيات تحققت اهمها ادراك الحكم ضرورة الاعتراف بالآخر ومسألة استخراج النفط. ويقول المهدي: "إننا نعود للوطن مدركين، قدر المستطاع، حجم المتغيرات وتعاظم المشكلات وجدوى الحل السياسي الشامل وما يدعمه من عوامل وما يعرقله من عوامل مضادة. لكن القراءة الصحيحة للمخاطر التي تحيط بالوطن والإدراك الصحيح للفرص المتاحة للوطن، توجب تحصين الوطن بالحل السياسي الشامل".
نظام "الإنقاذ" مسؤول عن تقويض الديموقراطية الثالثة في السودان. وعن إقامة الشمولية الثانية بمرتكزاتها السبعة: الأيديولوجية الرسمية المهيمنة، والحزب الواحد، وجهاز الأمن الذي لا يُسأل عمّا يفعل، والإعلام المنحاز، والاقتصاد الموجه لمصلحة حزبية، وحزبنة أجهزة الدولة، والعلاقات الخارجية المحورية.
لكن نظام "الإنقاذ" مثّل ظاهرة دفينة في نفوس كثير من النخب المثقفة في امرين هما:
- كثير من النخب في بلادنا لا تقيم وزنا للديموقراطية الليبرالية. وترى أن مجتمعاتنا الراهنة غير مستعدة للديموقراطية وغير مؤهلة لممارستها، ومفتقرة للوصاية التي ينبغي أن تفرض عليها لتحقيق التنمية والتحديث أو التأصيل أو غيرها من الشعارات الأيديولوجية.
- هذه النخب إذا استطاعت أن تفرض وصايتها فإنها تفعل ذلك عبر نظام شمولي يساري أو قومي أو يميني. لذلك فإنها استطاعت الاستيلاء على السلطة وإقامة الشمولية. وما لم تحدث ثورة فكرية وثقافية وهيكلة جديدة لتوجهات النخب العقائدية في السودان فان التآمر على الديموقراطية والتطلع لفرض الوصاية الشمولية مع اختلاف في الشعارات خطر مستمر على الجسم السياسي السوداني.
انطلاقاً من الاستيلاء على السلطة بالقوة وإقامة الشمولية بمرتكزاتها السبعة، فان تجربة "الإنقاذ" كانت الأشد تطرفاً في فرض أطروحاتها حتى بلغت بفرض الرأي الواحد حدوداً غير مسبوقة للأسباب الآتية:
أولاً: الدعوة الدينية بأن إرادة النظام تجسيد لإرادة الله.
ثانياً: رد الفعل الحاد الداخلي والإقليمي والدولي الذي أثاره التوجه الثيوقراطي الأحادي فصار الفعل ورد الفعل يغذيان بعضهما بعضاً.
ثقافة العنف
كانت النتيجة الداخلية لهذا الاستقطاب الحاد تراجع التسامح السوداني المعهود، وتوتر العلاقات الفكرية والسياسية وانتشار ثقافة العنف. وبلغ عدد الهيئات المسلحة التابعة للنظام تحت مسميات مختلفة سبعاً، اضافة للمليشيات القبلية الموالية التي فاق عددها العشر مليشيات. وتكاثرت الجماعات المسلحة المعارضة، السياسية والقبلية، بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث. وعمت ثقافة العنف القرى والحضر. فالمواجهات القبلية صارت أكثر حدة وتستخدم أسلحة أفتك. وخسائرها في الأرواح والأموال صارت أفدح.
والجامعات والمعاهد العليا، حواضن المستقبل الوطني ومنارات الوعي، صارت ساحات عنف بين الطلاب وأجهزة الأمن وبين الطلاب بعضهم بعضاً، حتى أن المنظمات الطالبية صارت تضع بنداً في موازناتها: "بند التأمين"، أي التسليح. وحتى حقائب الطالبات محفظة المرأة الحديثة ومستودع أدوات الرقة صارت لدى الطالبات لا سيما الناشطات تضم آلة دفاع أو هجوم السكين أو المطواة!. هذا زاد من حدة الاستقطاب وشدة الحوار بين القهر والعنف.
هذا الاستقطاب نشأ أصلاً من مواقف فكرية: إن الحرب أولها كلام. ثم أدى لمواقف فكرية أكثر تطرفاً.
لقد كان الحوار الإسلامي - العلماني في السودان معتدلاً، لكن الشعار الإسلامي الحاد الذي تبناه النظام ولّد شعاراً علمانياً حاداً في المعارضة.
والحوار الشمالي - الجنوبي الذي كان معتدلاً اندفع في اتجاهات حادة مضادة. على طول حوارنا مع الحركة الشعبية في كوكادام في آذار مارس 1986 وفي اللقاء المباشر بيننا في تموز يوليو 1986 ثم في مناقشات المبادرة السودانية في تشرين الثاني نوفمبر 1988 لم ترد عبارة تقرير المصير مرة واحدة. أما الآن فكل حواراتنا مع أي فصيل جنوبي تبدأ بافتراض حتمية تقرير المصير، وكان الأخ فرانسيس دينق في كتابيه "طائر الشؤم"، و"بذور الخلاص" يتناول بإيجابية العلاقة العربية - الأفريقية في السودان، ويتحدث عن العلاقة التسامحية بين الأديان في البلاد. لكنه في كتابه الذي استشعر فيه الحرارة الجديدة كتاب "حرب الرؤى" اتخذ موقفاً آخر. قال: "لا يمكن أن تكون هناك وحدة واستقرار وسلام إلا إذا تخلى من يعتقدون أنهم عرب عن هذا الانتماء". هذه لغة الحرب التي أفرزتها ظروف الحرب. إذ كيف يمكن من دون إكراه أن تطالب مجموعة بالتخلي عن هويتها؟ مشروع أن تطالبها بعدم فرض هويتها على الآخرين، ومشروع أن تطالبها باحترام هويات الآخرين أما أن تطالبها بسلخ جلدتها فهذا لا يحدث طوعاً بل كرهاً.
هذا المناخ الدامي خلق صورة للسودان من الخارج في غاية التعصب والدموية واستباحة حرمات الإنسان. لذلك صار الجواز السوداني أفضل وثيقة لاستدرار العطف الإنساني والديني والرسمي لدى أجهزة الدول الأكثر اهتماماً بحقوق الإنسان بحق أو لاستغلالها.
استطعنا في المعارضة أن نجعل كثيراً من المنابر الأكاديمية والفكرية والدينية والمعنية بحقوق الإنسان، محاكم لإدانة سياسات النظام. ومن هذه المنطلقات استطاع آخرون تجاوز محاكمة سياسات النظام لمحاكمة الإسلام والثقافة العربية ومحاولة وضع ثقافة المركز كلها في قفص الاتهام ثم في زنزانة الإدانة.
صار كثير من ضحايا سياسات النظام يتبنون خطاً فيه هجوم جوهري على ثقافة المركز وتحميلها وزر المظالم التي حدثت في السودان من دون تمييز بين الأصل والممارسة. كثير من المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية والأنشطة الفنية والثقافية التي تقام في الخارج لا سيما في البلدان الغربية، صارت منابر يصعدها سودانيون وأصدقاء من غربيين وأفارقة للانطلاق من حقيقة تعديات النظام إلى وسم الإسلام والعروبة في الأصل بالعدوانية. ومعلوم كم تجد هذه الادانات من تجاوب وعطف في أوساط كثيرة يهمها تحقير الإسلام والعروبة.
المطلوب بإلحاح وبسرعة وبوضوح أن نعترف بوجود ثقافة العنف في السودان، وبوجود استقطاب حاد فكري وسياسي امتد من الداخل إلى الخارج، وبضرورة العمل المنهجي للتخلص من ثقافة العنف ونتائجها الداخلية والخارجية.
إضافة لهذه العوامل الهامة المخيفة، فان السودان الجغرافي اليوم تبرز فيه سبع ظواهر جديدة عليه جديرة باهتمام كل المعنيين بالشأن العام هي:
1 - المستجدات الديموغرافية السكانية:
سكان السودان اليوم تقريباً 35 مليون. نسبة من هم في الطفولة إلى سن 14 سنة تبلغ 45 في المئة. ونسبة من هم في سن 15 إلى 46 سنة تبلغ 53 في المئة. هذا يعني أن نسبة الشباب في سكان السودان الآن عالية جداً.
والسودان يعاني من أن حوالى ثلث سكانه في حال نزوح داخلي أو هجرة خارجية.
- النازحون داخلياً من مناطق العمليات والمجاعات ما بين 4- مليون.
- المهاجرون واللاجئون والمغتربون، يبلغ عددهم ما بين 4-5 مليون.
هذه الحقائق تعني خريطة ديموغرافية جديدة للسودان.
2 - الفوارق الاجتماعية:
سياسات النظام وآثار الحرب الأهلية والمقاطعات الخارجية والتضخم الذي لحق بالاقتصاد الوطني، فزادت الأسعار التي إذا قورنت من عام 1989 إلى 2000 فان نسبة الزيادة بلغت 5000 في المئة. هذه الأسباب وسّعت الفوارق الاجتماعية حتى صارت الغالبية الساحقة أي فوق 90 في المئة تحت خط الفقر. وطفرت أقلية محدودة إلى مصاف القطط السمان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر. قال صحابي: أيعدلان؟ أجاب النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
كل مجتمع فيه درجة من الفساد الخلقي وفساد الذمم. المجتمع السوداني كان عادياً من هذه الناحية وان كان إلى الاستقامة أقرب. لكن الحاجة المادية الشديدة مزقت النسيج الاجتماعي ودفعت قطاعات كبيرة للتبضع بالأعراض وخيانة الأمانات وتلف الذمم. هذه ظاهرة اجتماعية مرتبطة تماماً بالحال الاقتصادية والاعتراف بها واجب والتأهب للتعامل معها ضرورة.
اتساع مساحة الفوارق الاجتماعية يغذي عوامل تاريخية أدت إلى تهميش تنموي وخدمي لأقاليم كثيرة وفئات اجتماعية عريضة. هذا التهميش المادي عضده تهميش ثقافي وفي ظروف الاستقطاب الفكري والسياسي الحاد الحالي فان التهميش أصبح قضية سياسية ويشكل رافداً من روافد العنف.
3- تقوية الانتماءات الموروثة:
انتماءات الإنسان في الغالب فكرية أو طبقية أو وراثية. والانتماءات الموروثة وراثية أما الفكرية والطبقية فهي مكتسبة. المجتمعات المتقدمة تتسع فيها الانتماءات الفكرية والطبقية وتتناقص الانتماءات الموروثة. عكس ذلك تماماً مجتمعات ما قبل الحداثة التي تتسع فيها الانتماءات الموروثة وتقل الفكرية والطبقية. النظم الشمولية الحديثة لا سيما التي تقيمها الصفوة المثقفة تستهدف الولاءات الفكرية والطبقية المضادة في المقام الأول. وتستهدف الولاءات الموروثة التي ترفض الامتثال لسلطانها. أما الولاءات الموروثة التي لا تنازعها السلطان لسبب أو آخر فإنها تتركها وشأنها أو حتى تدعمها. لذلك لوحظ أن هذه الولاءات تتمدد تمدداً ظاهراً في ظل النظم الشمولية. هذا ما حدث في السودان الآن بحيث تمدد نشاط الطرق الصوفية والولاءات القبلية.
التصوف السوداني في الأصل تصوف معتدل لم يتأثر بالفكر الفلسفي ولا فلسفات الحلول ووحدة الوجود. بل ظل تصوفاً سنياً معتدلاً قليل التأملات الفلسفية. صحيح، لحقت بالتصوف السوداني في الماضي بعض الشطحات كما سجل ذلك ود ضيف الله في كتاب "الطبقات". لكن التصوف في السودان في المراحل الأخيرة انفتح على العلم وتمدد في أنشطة جديدة شملت تكوين حوزات علمية ورعاية أنشطة استثمارية، وخلافة قيادات مثقفة ومجددة، وانفتاحاً على علاقات خارجية، وتطوير أساليب المديح، وتطوير الأنشطة الاجتماعية.
كذلك تطورت في السودان الولاءات القبلية ونمت فيها أنشطة اجتماعية وصارت قياداتها أكثر ثقافة. مجتمع الولاءات الموروثة في السودان اليوم أقوى منه في عام 1989، ولدى إتاحة الحريات سيكون له دور مهم في تطوير العمل العام في كل المجالات.
4- التمدد النسوي:
جاء نظام "الإنقاذ" بأيديولوجية تتعبد بالحط من المكانة التشريعية المعتبرة للنساء في البلاد. واتخذ سياسات وتعديلات قانونية في ما يخص العمل والأحوال الشخصية شكلت ردة عما حصلت عليه المرأة السودانية في الماضي. نعم حاول النظام تقليص دور النساء، لكن الذي حدث حقيقة هو أن ذلك الدور تمدد. فالاغتراب والتوطين واللجوء للخارج، ظواهر في الغالب رجالية أكثر منها نسائية. هذه الظواهر أدت إلى أيلولة المسؤوليات الأسرية والاجتماعية في كثير من الأوساط للنساء، ما أدى لزيادة بحثهن عن أعمال لتمويل المعيشة باعتبارهن الساعيات للرزق سواء كانت أسباب الرزق وظائف أو أعمال قطاع خاص مشروع وغير مشروع.
إقبال النساء على الوظائف مع الظروف الاجتماعية المعهودة التي تحول دون نقلهن للأقاليم جعل للنساء وجوداً أكبر في رئاسات المصالح والوزارات.
وتفوق الطالبات، ومحاصرة الشبان بالخدمة الإلزامية ونزعتهم للهجرة، عوامل أدت إلى زيادة عدد الطالبات في الجامعات والمعاهد العليا. وخلقت إعادة التوطين ظروف تمكين للمرأة حيثما وجدت في بلدان التوطين، لأن القانون والثقافة في هذه البلدان تناصرها. هذا الوضع صار له أثره الداخلي دعماً لمكانة المرأة.
هذا كله حدث في السودان الذي لم تقف فيه القوى التقليدية في الأصل موقفاً معادياً لتعليم المرأة وتحريرها مما أدى لاكتسابها حق التعليم والحقوق السياسية بإجماع الآراء. ويحدث هذا في وسط عالمي فيه انتصار قوي لحقوق المرأة وحساسية شديدة نحو التمكين النسوي أو العامل النوعي.
هذه الحقائق كلها تصب في اتجاه واضح: النساء أقدمن. النساء قادمات.
5- تصفية دولة الرعاية الاجتماعية:
الحكم البريطاني في السودان تأثر بفكرة الاشتراكية في المستعمراتCOLONIAL SOCIALISM. واستفاد من التجارب الفاشلة لسياساته في مصر وفي العراق وفي كينيا. لذلك اتخذ سياسات اقتصادية ذات محتوى اجتماعي عدالي، بل أبقت تلك السياسات على بعض سياسات المهدية العدالية.
دولة الرعاية الاجتماعية التي أسسوها في السودان ورثتها العهود الوطنية وأبقت عليها بل طورتها. النظام الحالي قوض دولة الرعاية الاجتماعية في السودان. هذا الخط منطقي مع التخصيص والعولمة وسياسات صندوق النقد الدولي، لكنه نفذ بطريقة قاسية جداً جعلت تصفية دولة الرعاية الاجتماعية وبالاً على الشرائح الفقيرة في البلاد وزادت من الفجوة الاجتماعية بين الذين يملكون والذين لا يملكون. هذه الحال ليست إنسانية وليست إسلامية ومن شأنها أن تقوض السلام الاجتماعي. المطلوب هو التوفيق بين مطالب العولمة وتحرير التجارة ورعاية الشرائح الفقيرة.
6- حزبنة مؤسسات الدولة الحديثة:
الدستور وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء والصحافة الحرة ولجنة الخدمة المدنية، جعلت النظم الديموقراطية التي حكمت السودان ملتزمة التزاماً صارماً بقوانين مؤسسات الخدمة المدنية والقوات النظامية والمؤسسات الاقتصادية وإدارة العدالة. لكن النظم غير الديموقراطية استباحت هذه المؤسسات والنظم وفرضت هيمنة سياسية بتوجيه حزبي معين. هذه الممارسات والسياسات صنعت دولة الحزب. هذه المظاهر ينبغي التخلص المنهجي منها لا للعودة لما كان. فان تكوين مؤسسات الدولة الحديثة تاريخياً كان معيباً في كثير من النواحي مما يوجب إعادة هيكلتها لتراعي التنوع الثقافي واللامركزية والتوازن المطلوب بين كل المجموعات الوطنية والكفاءة وتقنين ذلك بصورة يرضاها الجميع ويلتزمون بها.
7- حزبنة مؤسسات وأنشطة
الاقتصاد الوطني:
أهم العوامل التي تخلق الثقة في الاقتصاد الوطني وتشجع الاستثمار وتشجع عودة الأموال المغتربة وتشجع الاستثمار الأجنبي الحميد هي: حماية حقوق الملكية، ونفاذ التعاقدات، ونزاهة التنافس في المقاولات، والتنافس التجاري، والتزام النظام المصرفي بالضوابط المصرفية، وغياب المحسوبية والفساد، وسلامة النظام المحاسبي والمراجعات.
هذه العوامل تقوضها سياسة حزبنة الأنشطة والمؤسسات الاقتصادية. الاقتصاد الوطني الآن في السودان اقتصاد مجير لصالح فئة معينة. هذا وضع غير مقبول وينبغي التخلي عنه بصورة منهجية وكفالة العوامل المذكورة مفتاحاً لبناء الثقة في الاقتصاد الوطني، وخلق السوق الحر، وتوفير شروط التنمية.
ونحن نطل على سودان العودة يجدر بنا طرح السؤال: هل صنع نظام "الإنقاذ" أية إيجابيات؟
بكل موضوعية هنالك خمس إيجابيات ينبغي الاعتراف بها:
أولاً: حقق رفع الدعم عن السلع بالصورة الممارسة في السودان سابقاً. هذا إجراء اقتصادي سليم وان طبق بطريقة قاسية. كذلك اتجاه الخصخصة في جوهره سليم ولكن نفذ بطريقة أضرت بالصالح العام في بعض الحالات.
ثانياً: مشروع خصخصة دار الهاتف وما حدث من إصلاح في نظام الاتصالات بالسودان ذات كفاءة عالية بعد أن كانت كسيحة.
ثالثاً: عجزنا عن استغلال النفط السوداني. لكن النظام استطاع أن يرفع يد شفرون التي تعثرت في استغلال البترول الذي اكتشفته بل اشترطت علينا إبرام اتفاقية سياسية لإنهاء الحرب الأهلية قبل استئناف عملها. ثم استطاع النظام استغلال العوامل التنافسية بين الشركات النفطية ودولها لتحقيق استثمار ضخم لا يقل عن أربعة بلايين دولار. ويقيم البنية التحتية اللازمة لإنتاج البترول وتصفيته وسد حاجة الاستهلاك المحلي والتصدير.
ومن أهم الحقائق في هذا الصدد الارتباط الاستراتيجي بالصين الشعبية، فالصين الشعبية أكثر الدول نجاحاً في التنمية الاقتصادية والانتفاع بالتكنولوجيا الحديثة. ويدل الاجتماع الصيني الأفريقي الأخير في بكين الى أن الصين قوة استراتيجية واقتصادية لا يستهان بها.
ما بعد النفط
نجاح النظام في استغلال نفط السودان وتشييد بنية تحتية ضخمة وتحقيق تحالف استراتيجي مع دول محورية مثل الصين وكندا وماليزيا إنجاز استراتيجي وطني، ويمكن لهذا الإنجاز أن يحقق خيراً كثيراً إذا صحبه أمران:
الأول: قاعدة مقبولة لكل الأطراف الوطنية السودانية لتوزيع عائده ضمن توزيع عادل لثروة البلاد.
الثاني: تسويق إقليمي للنفط يضمن له سوق ثابت في دول الجوار لا سيما الجوار الشرقي الأفريقي.
السودان اليوم ينتج 000،182 برميل يومياً. ونصيب الحكومة من الكمية المنتجة 40 في المئة أي:
000،73 برميل في اليوم × 27 دولار = 400،976،1 دولار.
هذا المبلغ يساوي: 400،976.1 × 300 - أيام السنة = 000،920،592 دولار.
50 ألف برميل من نصيب الحكومة يوجه يومياً للاستهلاك المحلي والباقي يصدر.
رابعاً: النظام في السودان اتخذ قرارات كثيرة خاطئة في السياسة الإقليمية والدولية، لكنه راجع نفسه بعد ذلك، والمهم في كل الحالات أنه حافظ على استقلال القرار الوطني.
خامساً: مع أن النظام نظام شمولي إلا أنه لم يفرز كعادة النظم شخصية طاغية. نعم، النظام واجهنا وسائر خصومه بقهر وحشي، لكنه أبقى دائماً على درجة من التعددية الداخلية. تعددية صنعت جدلاً داخلياً وحالت دون تجسيد طاغية. هذه من فرائد التجارب السودانية: ديكتاتورية من دون ديكتاتور!.
لكن أهم ما في هذه التجربة أنها عندما واجهت الرفض السوداني العريض للديكتاتورية أدركت أن الانفراد بالسلطة في ظروف السودان مستحيل، بل جربت ذلك تجربة قاسية، وان الأيديولوجية النافية للآخر ورطة، سارعت إلى الدعوة للحوار والاعتراف بالآخر بصورة واضحة.
تجربتنا مع النظام، لا سيما عبر "نداء الوطن" وبعد ذلك، تؤكد أن الاستعداد لحوار جاد متوافر. لا أقول بلا عثرات، ففي داخل النظام مراكز قوى لا يعجبها التحول الديموقراطي. وفي المعارضة ما زالت هناك أطراف منحازة للاجندة الحربية واستغلال التناقضات الإقليمية والدولية. إن تصرفات بعض المعارضين، وتصرفات بعض الحكوميين تغذي بعضها بعض في زراعة الشك وعرقلة الحل السياسي الشامل.
كل الذين تعاملوا مع النظام أشاروا لوجود مراكز قوى وتضارب رؤى داخل النظام حتى بعد انشقاق المؤتمر الوطني الشعبي. ولا يدري أحد بل عجز المحللون والعرافون أن يفهموا ما معنى انتخابات تجرى في البلاد قبل إبرام اتفاق سياسي وشيك؟ وما معنى وضع حزب الأمة المرافع الأول عن الحل السياسي الشامل أمام انتخابات لا يستطيع خوضها قبل إبرام اتفاق سياسي وقبل الاتفاق على قانون الانتخابات والاطمئنان على نزاهتها؟ وحتى إن أبرم الاتفاق السياسي، واتفق على قانون الانتخابات، وعلى نزاهتها، هل يستطيع حزب كان محظوراً، وعاش أكثر من عشر سنوات في ظروف استثنائية أن يشارك في انتخابات قبل مؤتمره العام ودراسة وإجازة برنامجه للمرحلة المقبلة وتنظيمه الجديد؟ اللهم لا.
هذه عقبات نذكرها ونرفضها. لكنها لا تنفي وجود توجه جاد لدى النظام نحو الحل السياسي الشامل. ولا تنفي استطاعة هذا التوجه أن يتمكن من تصحيح الأوضاع والتخلص من أسباب العرقلة لأننا نعتقد أن العوامل الآتية تدفع في سبيل الحل السياسي الشامل وسوف تفرضه:
أولا: إيمان القيادة العليا بالحل السياسي الشامل.
ثانياً: تأييد القوات المسلحة السودانية للحل السياسي الشامل.
ثالثاً: الشعبية العريضة التي تؤيد الحل السياسي الشامل وتقف ضد الاجندات الأخرى: الشمولية، والحربية والتدويلية.
رابعاً: مع إخفاق الحرب في حسم الموقف، وإخفاق الديكتاتورية في تحقيق الاستقرار وبروز اقتناع مشترك بنقاط جوهرية، وبروز مخاطر على مصير الوطن، لا يوجد بديل حقيقي للسلام العادل، والتحول الديمقراطي.
إننا نعود للوطن مدركين قدر المستطاع حجم المتغيرات. ومدركين تعاظم المشاكل. ومدركين المستجدات والمخاطر. ومدركين جدوى الحل السياسي الشامل وما تدعمه من عوامل وما تعرقله من عوامل مضادة. لكن القراءة الصحيحة للمخاطر التي تحيط بالوطن، والإدراك الصحيح للفرص المتاحة للوطن، توجب تحصين الوطن بالحل السياسي الشامل وخوض ما شاء الله من مهاوش ومفاوز:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتّال
بعد غد الاثنين حلقة ثامنة من كتاب الصادق المهدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.