في ذلك الزمن كانت الظروف كلها تبدو وكأنها تدفع الامبراطورية العثمانية الى المزيد من الهزائم. فالغرب الذي كان يحاول وراثة "رجل اوروبا المريض" منذ بدايات القرن، وعلى الأقل في ثلاث من مناطق نفوذه الرئيسية: شمال افريقيا، البلقان، والشرق الاوسط، كان قد استقر رأياً على توجيه الضربات متتالية الى الامبراطورية، غير تارك لها ولو فسحة ضيقة للتنفس بين ضربة واخرى. وهكذا في الوقت نفسه الذي كانت فيه الامبراطورية بدأت بتوقيع معاهدة "أوشي" مع ايطاليا، التي تسلبها ما "تمتلكه" في ليبيا، اعلنت اربعة بلدان بلقانية تحتلها القوات العثمانية بشكل او بآخر، الحرب على اسطنبول، مشكلة من جديد حرب البلقان التي، اصلاً، لم يكن اوارها انطفأ ابداً. حدث ذلك يوم 14 تشرين الاول اكتوبر 1912، حين فوجئ الاتراك، وهم يرون انفسهم مجبرين على قبول الشروط الايطالية المهينة حول ليبيا في أوشي، فوجئوا باليونان وصربيا وبلغاريا ومونتغرو تتضافر معاً، لاعلان الحرب عليهم، راغبة في الحصول، الآن وقد توفرت الظروف، على استقلال طال انتظاره والعمل من اجله. للوهلة الاولى، حين سمع الامين العام الاوروبي باعلان تلك الحرب الرباعية، خيل الى الكثيرين، وفي مقدمهم دوائر اتخاذ القرار في عواصم الغرب التي لم تكن في ذلك الحين واثقة من اي شيء، خيل اليهم ان الرد العثماني وانتصار القوات التركية امران محتمان. وكانت اوروبا تستخلص من توقعها ذاك دروس الهزيمة النكراء التي حلت باليونانيين خلال مجابهتهم الاتراك في العام 1897. غير ان القوى البلقانية المتحالفة عرفت - بحسب تعبير مؤرخي تلك المرحلة - كيف تقلب التوقعات كلها رأساً على عقب، مؤكدة ان قوة تركيا العثمانية اواخر القرن الفائت، لم تعد هي هي قوة تركيا تحت سلطة الاتحاديين. وكان آية ذلك الانقلاب الانتصار السريع والباهر الذي حققه البلغاريون خلال الايام القليلة التي تلت اعلان الحرب، اذ ما ان حل يوم 24 من الشهر نفسه حتى كان البلغار يحتلون كيرك - كيليسه، وبعد اسبوع واحد انجزوا احتلال لولي - بورغاس. وكان من الطبيعي لتلك الانتصارات البلغارية السريعة ان تحرك حماس حلفاء بلغاريا، وهكذا تمت محاصرة ادرنة، وصارت اسطنبول نفسها في خطر، في الوقت نفسه الذي احتل الصربيون كومانوفو، وتمكن اليونانيون من الدخول الى سالونيك، مهد الحركة الانقلابية التركية التي قادها حزب الاتحاد والترقي الحاكم الآن. صحيح ان القوات التركية استعادت إثر ذلك بعض انفاسها، إذ رأت كل ذلك الخطر يحيق بالعاصمة، وتمكنت من ايقاف البلغاريين في تشالدجا، غير ان تركيا خسرت، في المقابل، مقدونيا كلها، كما كانت خسرت كوسوفو امام الصربيين قبل ذلك. اما الضربة الكبرى التي طاولت القوات التركية في تلك الحرب الخاطفة و"المفاجئة" التي راح الغرب ينظر اليها باعجاب، فيما استثيرت بسببها مشاعر المسلمين في العالم اجمع بمن فيهم اولئك الواقعون تحت الربقة العثمانية والراغبون في الاستقلال، الضربة الكبرى كانت خلال معركة موناستير، يوم 18 تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه، حيث اكد الحلفاء المعادون للامبراطورية العثمانية تفوقهم العسكري، وتمكنوا من الاستفادة من الدعم اللامحدود الذي راحت امم الغرب ووسط اوروبا تقدمه لهم. وكان من الواضح ان النقيصة الاساسية لدى الجيش العثماني كانت تكمن في افتقاره الى القيادة العسكرية القوية والماهرة بعدما كان كبار ضباط هذا الجيش قد انخرطوا في العمل السياسي الانقلابي. وإثر معركة موناستير، زاد الحصار حدة من حول إدرنة التي ستسقط في الربيع التالي، ليعود الاتراك ويستعيدوها، لكن هذه حكاية أخرى. وبعد ذلك إذ سقطت رومللي الشرقية، لم يعد امام الاتراك الا ان يقبلوا بهدنة، مذلة لهم، عقدت يوم 3 كانون الاول ديسمبر من العام نفسه، تلتها مفاوضات في لندن ابدى خلالها الاتراك عناداً لكنه غالب، اذ انهم اذ ابدوا ذلك العناد تسببوا في فسخ الهدنة ما مكّن الحلفاء من تحقيق انتصارات جديدة اضطرت الاتراك الى الرضوخ مجدداً حيث لم يبق لديهم، على الاراضي الاوروبية سوى القطاع الاوروبي من اسطنبول. وخسروا كل شيء ليربحوا، جزئياً بعد ذلك، ولكن ليس بفضل قوتهم بل تحديداً لان الحلفاء راحوا يتنازعون مقدونيا... الصورة: جنود عثمانيون ينسحبون من مواقع القتال. ابراهيم العريس