من يستطيع ان يمنع نفسه من النظر والتفكير في ما وصلت اليه المسيرة السلمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين بعد التوقيع الأخير على تطبيق اتفاقية واي، والتي تقرر فيها ان تنتهي المشكلة بتسوية دائمة - بعد عام من الآن - وهي المشكلة التي شكّلت هاجساً لثلاثة اجيال من العرب، ومثلت القضية المركزية لابن طنجة كما هي لابن صحار، مروراً بالعرب جلهم، ورفعت حولها شعارات التحرير من النهر الى البحر، وثورة حتى النصر! وينظر المراقب في التاريخ القريب لهذه المسيرة لعل دروساً مستفادة منها تبرز على السطح وتتاح لأهل العقل، فالأسئلة التي ستطرحها الأجيال العربية المقبلة على جيلنا كثيرة، وربما تتمركز في سؤال واحد، وهو: هل ما تحقق في نهاية القرن العشرين من حل دائم وشامل للقضية الفلسطينية كان يمكن ان يتحقق قبل ذلك بزمن، وبتوفير الكثير من الدماء والآلام؟ وهل ما تحقق هو نتيجة توازن قوي جديد، ام هذا التوازن كان في مرحلة سابقة افضل منه الآن، وبالتالي كان من الممكن ان يتحقق للقضية وضع افضل مما تحقق لها بالفعل؟ مثل هذا السؤال بتفرّعاته، سيسأل بإلحاح من اجيال عربية قادمة، وسيكون الاستغراب منهم اكبر ان لم نطرحه على انفسنا اليوم. لذلك من يستطيع ان يمنع نفسه في النظر والتفكير في هذه المسيرة التي شهدت انقلابات وخمس حروب طاحنة، وحروباً عربية أهلية او بينية، وخراب مدن عربية كاملة، وقتل رؤساء دول، ورؤساء وزارات، وإبادة تجمعات بشرية، بل وتشويه اكثر من جيل عربي نفسياً وأخلاقياً، وتفويت فرص عدّة لا تتكرر للتنمية والتطوير واللحاق بالعصر، ولا تزال هذه المسيرة تحمل هذا المذاق المر في حلوق الكثيرين، من دون ان يستحضر دروسها البليغة احد. الفلسطينيون ان حققوا شيئاً في هذه المحاولة السلمية للوفاق مع اسرائيل، فانهم سوف يحصلون على ربع فلسطين التاريخية، ونصف فلسطين المقسّمة حسب قرار مجلس الأمن في 29 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1947، ودولة ليس لها أسنان، تلك الحقيقة الشاخصة، ولكنها ليست كل الحقيقة، فان ما سيحصلون عليه هو نتيجة مقررة لتوازن القوى ليس العسكرية، ولكن السياسية والديبلوماسية والثقافية ايضاً، وليس بين العرب واسرائيل فقط، بل وأيضاً بين العرب والقوى العالمية الكبرى المسيطرة في نهاية القرن العشرين. لقد انقسم المتابعون والكتّاب العرب - كعادتهم - بين موافق على ما تم في الاتفاق الأخير، وبين معترض عليه، وهو ايضاً التقسيم الذي ظهر بين الفلسطينيين انفسهم، وانا لا اريد هنا ان أنصب نفسي حكماً على ما تم، هل هو جيد او نصف جيد أم رديء، فهذا ليس ما أريد ان اصل اليه على الاقل الآن، ولا أريد ايضاً ان اقلل من التضحيات الكبرى التي قدمها الرجال والنساء، والأطفال الفلسطينيون منذ ان اقتلعوا هم او آباؤهم من اراضيهم، فأنا أعي، بخاصة بعد تجربة الاحتلال العراقي للكويت، ما قاله مرة إدوارد سعيد بعمق وبعد نظر، اذ قال: "لا يمكن لأحد لم يمر بتجربة الطرد من الوطن، ثم يرى الغاء وانكار وطمس كل ما يحمله الوطن من تاريخ وذكريات، ان يفهم ما ينطوي عليه ذلك الوضع من هول"، انه الهول ذاته. ولكني في الوقت نفسه لا استطيع ان اتجاهل شعوري الغامر الذي ألح عليّ بأهمية المساهمة في المراجعة العامة للمسيرة لهذه الفترة الطويلة من التصدي لتحرير فلسطين وفي هذا الوقت، وان كانت مراجعة على عجل، لبسط صورة بانورامية لهذه المأساة والملهاة العربية. كل ما سيعود من ارض فلسطين بعد هذه السنوات الطويلة من النضال والتضحيات الكبرى التي قدمت من الناس العاديين، سواء في مصر او لبنان او في الكويت، وكل ما سيسترجع اليوم من ارض بعد الاتفاق الاخير وحتى منتصف السنة القادمة - ان سارت الأمور كما يحب المفاوض الفلسطيني ويشتهي - كان لنا نحن العرب قبل سنة 1967، وتحت سيادتنا، وفي تلك السنة المشؤومة التي امتازت عن حق بمزايدات عربية جاهلة، كانت تراكمات لسنوات قبلها، فقدنا ما لدينا وبسرعة، ومن دون مقدمات، وما اصبحنا نفاوض عليه بعد ذلك، ولفترة طويلة، ونعتبره انتصاراً كان لنا وأردنا المزيد - من دون حساب او استعداد حقيقي - ففقدنا ما لدينا، ثم فاوضنا عليه، وحصلنا على جزء منه، واعتبرنا كل ذلك انتصاراً؟ أهناك اكثر عبثية من هذه المعادلة. منذ انشاء اسرائيل حتى حرب 67 انقضت تسع عشرة سنة فقط والاستعداد قائم لتحرير فلسطين. في هذه الفترة، قامت تقريباً كل الانقلابات العربية، وتغيرت معظم الانظمة وكان البيان الاول للقائمين بهذه الانقلابات هو السير لتحرير فلسطين. اما كيف وبأي الطرق، فلم يكن احد يتوقف ليسأل. كنا نعد العدة ونراكم الأسباب للوصول الى 1967، ولم يكن هناك مكان لرأي عاقل. ومنذ 67 حتى 99 مضت اثنتان وثلاثون سنة، خربت فيها لبنان عن بكرة ابيه، وفقد اللبنانيون مئات الآلاف من القتلى في البشر والدمار للمدن، وقبلها خرّبت عمان في حرب قريبة الى حرب الشوارع، ثم أشعلت النيران على طرف الخليج في الكويت، ولم يبق انسان عربي يعي ما يدور حوله الا وتيقن انها الفوضى الكلية من دون هدف، وكان الهدف المعلن للبسطاء هو "تحرير فلسطين" وايضاً لم يتوقف احد ليسأل كيف وبأي الطرق! في بيروتوعمانوالكويت ومدن القناة المصرية، ومنذ عربية عديدة، قاست جموع من العرب البسطاء والطيبين من آثار هذا الصراع المدمّر، وظهرت هذه الآثار مباشرة او غير مباشرة على الانسان والاقتصاد والأخلاق، وتبين ان ثمناً كبيراً قد دفع حتى اليوم من جرّاء هذا الصراع المميت، ولكن المؤسف ان هذا الثمن الذي دفعته الغالبية من فلسطينييم وعرب من دون مردود سياسي يعادل هذا الثمن، او ان ذلك المردود كان أقل كثيراً من الأثمان الانسانية التي قدّمت. وأنا لا اقصد هنا المردود السياسي بالإشارة الى ما توصل اليه الفلسطينيون والاسرائيليون اخيراً، ولكني اقصد انه لو وجدت حريات حقيقية، ونقد حقيقي للممارسات التي تمت باسم فلسطين، وللشعارات التي رفعت، وبعيداً عن التهديد والابتزاز، لتحقق - نتيجة هذه التضحيات - الكثير من الأهداف الانسانية والسياسية والحضارية، ولكن ذلك لم يتم، وبالتالي لم يتحقق اي من هذه الأهداف المرغوبة للمواطن العربي، وكانت الضريبة الأهم للكثيرين، وما زالت مع الأسف، هي ضريبة الكلام. وأيضاً لم اكتب ما اكتبه للبكاء والعويل على الماضي - مع تحفظ - يقول انه لا بد من المحاسبة التاريخية لكل الاخطاء التي تمت، ولكني ايضاً اكتب لعلّي انبّه بأن التحدي القادم، هو بناء الدولة الفلسطينية المأمولة على أسس تجعل بعض تلك التضحيات تاريخياً مبررة، وهناك طريقان لبناء الدولة، الأول هو التأكيد على الحريات وممارستها بشكل اكثر اتساقاً مع متطلبات العالم الحديث وتضحيات البسطاء من الناس، فهناك قناعة تامة بأن احد الأسلحة الاكثر فتكاً والتي استخدمتها اسرائيل هو انها بنت مجتمعاً خاصاً بها، له علاقة بعالم اليوم المبني على اعلاء المؤسسات، واحترام الحريات، وبالتالي حصلت على احترام العالم الحديث، المعظم لدور المؤسسات وتكافؤ الفرص، والشفافية والتبادل السلمي للسلطة. والطريق الثاني هو الطريق الذي عرفناه، وهو الاحتجاج وبالخصوصية، واتقاء الأعداء، ومحاربة المختلفين، والتشبث بالسلطة، وإرهاب الآخر، واطلاق الشعارات الجوفاء، وبالتالي حرمان الناس العاديين من تكافؤ الفرص والتمتع بالحريات العامة، والنتيجة هي بناء دولة تسلطية يعشش فيها الفساد، ويكدس فيها السادة الثروة، ويكون فيها الفلسطينيون، وأقصد جماهيرهم، قد خسروا الحسنيين، تعاطف العالم معهم، واحترام قيمة الانسان. اذا انتصر الخيار الثاني، ولعلني متشائم الى درجة ترجيحه، فإن الخسارة ستكون أعظم وأفدح، خسارة كل هذه التضحيات التي ستذهب عبثاً، فتاريخ الشعوب علّمنا في نهاية القرن العشرين انه من الممكن الصبر على الجوع، ولكن من الصعب الصبر على الديكتاتورية. الا ان عاملاً يجب حساب نتائجه وهو دينامية التفاعل مع الجار الاسرائيلي، فليس سراً ان بعض النخبة الفلسطينية القريبة من السلطة ترى ان العلاقة مع اسرائيل ستكون عضوية في المستقبل، ولعل الشواهد بذلك كثيرة منها المخيمات المشتركة للشبيبة الاسرائيلية - الفلسطينية التي تقام في الولاياتالمتحدة، ومنها ايضاً التعاون الأمني المنصوص عليه في الاتفاقية الاخيرة. التسوية الدائمة واقع موضوعي، ولكن ماذا نفعل بما هو مطروح للنقاش، ليس فلسطينياً فقط، ولكن عربياً ايضاً. فالأرض من دون انسان حر هي عبء على الانسان والأرض معاً. * كاتب كويتي.