تعثُّر الحملة ل «إسقاط النظام الطائفي» التي نظمتها مجموعات لبنانية، بدأ منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها، فقد قرر الناشطون في حينها أن يكون «سلوغان» حملتِهم: «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي»! في محاولة للقول بأنهم جزء من حركات الاحتجاج على الأنظمة في العالم العربي. لقد تعثروا في خطوتهم الأولى، فهم كسروا الوزن الإيقاعي لتلك العبارة البسيطة وغير البليغة، لكنِ الساحرة، التي افتُتِح بها زمنُ الثورات، أي «الشعب يريد إسقاط النظام». فلننشدْ معهم عبارتَهم: «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي». فقبل أن نصل إلى الكلمة الأخيرة منها ستضطرب الجملة، دافعةً الألسن إلى ابتلاع الإيقاع. وهذا الأخير هو السر الرئيسي لقوة العبارة، التي راحت تنتشر على ألسن المحتجين والثائرين على أنظمتهم. ليس هذا تفصيلاً لا قيمة له، فالانتماء إلى موجة الثورات الجديدة يقتضي قدراً من إعادة الاعتبار إلى البداهة، وإلى المضمون غير الجوهري، أو ما كنا نعتقد انه غير جوهري. أحرق رجل نفسه في مدينة هامشية في تونس، فأشعل ثورات في ثماني دول، وهدّد أكثر من تسعة أنظمة! ألا يكفي هذا لنقول إننا لا نبالغ في إن كسر الوزن الإيقاعي للجملة المفتاح في هذه الثورات يعني بدايةً متعثرةً لهذه الحملة المفتعَلة لإلغاء الطائفية السياسية. الواقعة الصغيرة هي حدث مؤسس في منطق الثورات الجديدة، فلو أن أصدقاءنا العاثرين في حملتهم كانوا باشروها بعبارة خاطبت ميلاً عابراً للإنشاد لكانوا تفادوا عثرة أولى من بين عشرات العثرات التي تنتظرهم. أي أن يبدأوا بجذبنا عبر جملة موسيقية منسجمة على الأقل. في أحد المَشاهد التلفزيونية المتكررة عن الثورة التونسية، تمشي سيدة في العقد الخامس من عمرها وتُردد بصوت قوي: «نموت، نموت، ويحيا الوطن»، وتبدو هذه العبارة من البداهة والعادية والتكرار بما لا يؤهلها لافتتاح ثورة، ولدفع نحو تغيير، لكن السيدة حين قالتها بصوتها القوي، بدا وكأننا نسمعها للمرة الأولى. «نموت، نموت، ويحيا الوطن»، كم فاتنا أن نقول ما قالته هذه السيدة، أو ما قاله ذلك الرجل المسن في تونس أيضاً، عندما وضع يده على شعره الأبيض وصرخ: «هَرِمنا... بانتظار هذه اللحظة». إنه الإيقاع الداخلي للغة الثورة التونسية، ذلك الذي نسأل أنفسنا ما إذا كانت لنا قدرة على إنتاج إيقاع موازٍ له في الثورة التي يقترحها علينا ناشطو حملة إسقاط النظام الطائفي. وما عجْزُهم عن إنتاج إيقاع ل «ثورتهم» إلا صورة عن انعدام روح حقيقية لتحركهم، والدليل الحاسم على قوة هذا الافتراض يتمثل في أن كل الثورات التي شهدناها راح عدد المشاركين فيها يتعاظم يوماً بعد يوم، باستثناء ثورتنا التي تشهد تناقصاً في عدد المشاركين كلما انتقلنا من تظاهرة إلى أخرى. كل التفاصيل الأخرى عن أسباب عدم نجاح التحرك لا قيمة له. محاولة أحزاب طائفية مصادرتَها، أو التعرض بالضرب لمشارك أضاف عبارةً على لافتته توحي برغبته في نزع سلاح حزب الله، أو شعور طوائف بأكملها بأن إسقاط هذا النظام مكسب طائفي لها، وشعور طوائف أخرى بعكس ذلك... كل هذا لا قيمة له أمام العجز عن اجتراح لغة داخلية تُعين على تسويق الثورة. ثم إن العوامل الأولى التي تعيق «الثورة اللبنانية» تفضي إلى العوامل الأخرى، فمن أين لهم بامرأة مثل تلك السيدة الفرنسية، أو برجل أبيض الشعر كذاك التونسي الذي قال «هَرِمنا»؟ فالنشطاء الهَرِمون من الحزب السوري القومي الاجتماعي جددوا شبابهم في الوزارات التي نَعِم بها الحزب منذ 1990، وكهول الحزب الشيوعي اللبناني، يئنّون تحت وطأة شعورهم بالعار من جراء عدم قدرة حزبهم العظيم (هل تذكرون الزعيم العظيم) على فضح حلفاء انهالوا بالضرب على رفيق بسبب اقترابه من منطقتهم. ثم أن الاندراج في زمن الثورات يقتضي تضامناً بينها عابراً للحدود وللحسابات، توفره صفحات فايسبوك. ذاك أن صفحات شبيبة الثورة المصرية، مثلاً، يتولون اليوم مد الاحتجاجات في سورية بالكثير من الدعم والمؤازرة، أما «ثورتنا» لإسقاط النظام الطائفي في لبنان، فهي في أحسن الأحوال، متجنبة الخوض في الشأن السوري وفي التضامن مع شبان لا يبعدون أكثر من مئة كيلومتر عن العاصمة اللبنانية. أما في أسوأها فهي منحازة إلى النظام في سورية، وإذا كان لا بد من تضامن فهو مع النظام هناك وليس مع الناس. الجدة، كل الجدة، هو ما ميز الثورات في عالمنا العربي. الجدة في الطموحات وفي الوسائل وفي الشعارات. لكن المخيلة اللبنانية عقيمة على هذا الصعيد، فهي اقترحت على اللبنانيين عنواناً قديماً لثورتهم، افتتحوا به حربهم الأهلية في 1975. تخيلوا أننا حيال «ثورة» من دون مخيلة! «ثورة» عجز قادتها عن قول كلمة واحدة جديدة. عجزوا عن ابتكار شعار، وعن إطلاق أغنية. أجاد اللبنانيون الحروب، هذا الأمر يجب أن لا ننكره عليهم. أنشدوا للحروب ونجحوا بذلك، حولوا مدينتهم إلى متحف لها، وأقاموا المعارض وكتبوا شعراً وروايات عنها. الثورات البيضاء ليست صنعتهم، والاستقلال بأنفسهم ليس طموحهم، وللحرية في وجدانهم مهمة أخرى، غير تخصيب الخيال وإطلاق الطاقات. فلنكف عن الاعتداء على «الشعب يريد إسقاط النظام».