لغة مختلفة تكاد أن تسمعها من الولاياتالمتحدة بخصوص الصراع العربي - الإسرائيلي، لكنها لا تكفي لصنع السلام. أن يقول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إن السلام الإسرائيلي - العربي هو مصلحة قومية أميركية عليا، في خطاب وجّهه إلى النخب في جامعة بارإيلان، وأن الشعوب في العالم الإسلامي تربط بين أفعال إسرائيل وسياسة الولاياتالمتحدة، بما يؤثر في مكافحة الإرهاب وفي الولاياتالمتحدة نفسها، فإن مثل هذا القول يعني تبنياً رسمياً لتقرير بيكر-هاملتون في ما يتعلق بالشق المتصل بأن على الولاياتالمتحدة أن تفهم أن معاناتها من الإرهاب سببها عدم إيلاء الصراع العربي - الإسرائيلي أولوية للحل. ذلك أن انحياز أميركا إلى إسرائيل سيعني المزيد من عدم القدرة على كبح جماح المحبطين والمتهورين في العالمين العربي والإسلامي، وأن الإرهاب سيتحول إلى جسر يعبر منه الإحباط إلى تحميل الولاياتالمتحدة المسؤولية. من هذا القبيل الموقف الذي اتخذته الوزيرة هيلاري كلينتون بخصوص الاستيطان جوهراً وتوقيتاً. وكذلك موقف قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس في مطالعته السياسية - الاستراتيجية أمام مجلس الشيوخ عندما اعتبر أن توترات الأوضاع في الصراع العربي - الإسرائيلي تمارس تأثيراً ضخماً على المحتوى الاستراتيجي في مواقع عمل القيادة الوسطى، وأن إنهاء «العنف» بين إسرائيل وبعض جيرانها يمثل تحدياً استثنائياً لمدى قدرة الولاياتالمتحدة على تقديم مصالحها في المنطقة، لأن هذا الصراع يثير المشاعر العدائية للولايات المتحدة بسبب انحيازها لإسرائيل وغضب العرب بسبب المسألة الفلسطينية. br / هذا الكلام لم نعتد عليه وهو يتجاوز لغة جيمس بيكر مع شامير 1991، وقد يوحي بتحول في الولاياتالمتحدة لا يصل إلى آخر الشوط في المواجهة مع إسرائيل وإلى صنع سلام. صحيح أن الولاياتالمتحدة باتت تطرح أن تفاوض باسم الفلسطينيين لتصل إلى حقوقهم حتى حدود عام 1967 مع تبادل الأراضي، وهو إجراء يتم التقدم به لأول مرة – حتى في التاريخ – من دولة تفاوض عن حقوق شعب، الأمر الذي قد يفسر سبب رمى نتانياهو الاستيطان في وجه بايدن، إلا أن هذا الطرح قد لا يقود إلى شيء إذا استطاع رام عمانوئيل أن يقنع الرئيس الأميركي بإيقاف حملة كلينتون - بترايوس - بايدن عند هذا الحد والقبول بتسوية تحت ذرائع عدة منها: أن لا بديل عن حكومة نتانياهو وأن مجرد سقوطها سيعني توقف عملية السلام (وهذا مرجح كأسلوب يمكن أن يعتمده الإسرائيليون لإيقاف العملية السلمية والضغط الحالي عليهم)، وأن لا أحد في إسرائيل يمكن أن يدعم السلام إذا دفع نتانياهو إلى الحشر في المواجهة الحالية، والتحذير من أن حزب العمل في إسرائيل أصبح من المحافظين الجدد بعد مغادرة 1.5 مليون إسرائيل خلال السنتين الماضيتين وهم كانوا قاعدة سياسية للسلام في إسرائيل. وزارة الدفاع الأميركية – أيضاً – كانت وجهت رسائل داعمة لتيار كلينتون في الإدارة عندما رفضت أثناء زيارة باراك الأخيرة طلباً إسرائيلياً لمعدات عسكرية لتحسين قدرة إسرائيل على توجيه ضربة عسكرية ضد إيران أو حتى لتحسين ميزان القوى الحالي مع محيطها (سورية ولبنان)، وهذا يعني أن ثمة تياراً بات اليوم يريد أن يتفحص إمكان اتخاذ موقف يفضي إلى نتيجة في الصراع العربي - الإسرائيلي باعتبار أن انهاءه غدا عملياً جزءاً من الأمن القومي الأميركي. وفي التفصيل: أولاً: هذا التيار جزء من تيارات عدة في البيت الأبيض. أ - تيار الواقعية السياسية المؤلف من عدد من الوزراء في مقدمهم كلينتون المتأثرة بنظرية حلف (Transpacific) أي ما وراء الباسفيك، وهي ترى ضرورة اختراق أجندة التحالف لدول شمال الأطلسي إلى إيجاد حلف من الولاياتالمتحدة وروسيا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية باعتبارها دول (مركز العالم) والتنمية، وذلك لإضعاف النفوذ البريطاني في الولاياتالمتحدة الذي كان أسوأ مثل عليه نظرية توني بلير في نيسان (أبريل) عام 1999 الواردة في محاضرته في معهد واشنطن للشرق الأدنى بعنوان «عقيدة للمجتمع الدولي». تتحدث نظرية بلير عن نظام (ما بعد وستفاليا) في العالم؛ أي طي صفحة الدولة-الأمة وإلغاء السيادة وشن حملات ضد الشر (crusades against evil). وهذا التيار يرى ضرورة الحفاظ على مصالح الأمة الأميركية بالدرجة الأولى، ويرى أن ممارسة أميركا السيادة العالمية يجب أن تكون حساسة للحقيقة التي تفيد بأن الجغرافيا السياسية تظل ذات اعتبار حاسم في الشؤون الدولية. لذلك، فإن الموقع الجغرافي للصراع العربي - الإسرائيلي حين ترك نهباً للتراكمات، باتت المصالح الأميركية في عمق الداخل الأميركي تتأثر به. ولهذا يجب وضع هذا الصراع على سكة الحل خلال ستة أشهر حتى يتم الدخول في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في انتخابات الكونغرس على قاعدة متحررة نسبياً من ضغوط المال اليهودي. ب - تيار مجموعة التدخل الإنساني (Humanitarian Interventionists Trend): وهو مرتبط بالجناح اليساري للمحافظين الجدد. وهم أصحاب نظرية تصنف على أنها يسارية-ليبرالية، إلا أنها تفضي إلى نفس نتائج المحافظين الجدد. هذا التيار ضد الدولة-الأمة وضد السيادة وعلى صلة بمشروع ما بعد معاهدة وستفاليا؛ وهي مجموعة متأثرة بمدرسة فرانكفورت الشهيرة ومنها سمانثا بلورز التي اشتغلت مع جورج سورس وعملت في «معهد المجتمع المفتوح» المتفرع من مدرسة المحافظين الجدد. وهي متخصصة في حقوق الإنسان وتعمل مساعدة خاصة للرئيس باراك أوباما لشؤون المنظمات الدولية. كما أنها متزوجة من أحد مستشاري الرئيس واسمه كاس سان ستاين Cass Sunstein المتخصص بالاقتصاد من جامعة شيكاغو، حيث مقر ليوشتراوس الأب (الفيلسوف) لمجموعة المحافظين الجدد. وهذا التيار المؤلف منها ومن دينيس روس وسوزان رايس السفيرة في الأممالمتحدة هو الأكثر قرباً من السياسات التي أدت في عهد بوش إلى نظرية (التدخل الإنساني) والتي تقف وراء التورط المتزايد في موضوع دارفور تحت العنوان نفسه. رايس هذه هي التي دفعت باتجاه اتهام السودان بالإبادة الجماعية، معروفة بكراهيتها الإسلام والمسلمين بصورة شبه علنية. وهي تعيد التنظير لسياسة الضربات الوقائية المعروفة بأنها نظرية للمحافظين الجدد، تحت ذريعة أنها جزء من الاستراتيجية الأميركية التي أعلنت (ولا يزال يعمل بها) منذ أيلول (سبتمبر) 2002. وتقوم هذه الاستراتيجية على ضرورة التدخل عسكرياً ضد السودان وميانمار وجمهورية الكونغو الديموقراطية وضد إيران وكوريا الشمالية، وأن الأهداف الرئيسة اليوم للمواجهة السياسية يجب أن تكون الصين وإيران والسودان. وكل ذلك تحت مظلة مزاعم حقوق الإنسان وانتهاكاتها والإبادة الجماعية. وهذا كله محسوب على خط ما بعد (معاهدة ويستفاليا) الذي رسمه توني بلير. ورايس التي تطمح أن تحل مكان هيلاري كلينتون تدعم أي عمل عسكري في إطار الحملات الوقائية - الاستباقية، لهذا فهي ضد أي توجه سلمي في المنطقة وتضع مع مجموعتها العصي في عجلات المشروع السلمي. ج - رام عمانوئيل، وهو يشكل بيضة القبان في توازنات المصالح الإسرائيلية ورؤية التيار الصهيوني الأميركي لمصلحة إسرائيل، وهو تيار يريد السلام ولكن ليس على حساب إسرائيل. ثانياً: في عناصر العملية السلمية ما يتمثل في أن هنالك من يرى أن ميزان القوى الحالي ليس لمصلحة إسرائيل، وبالتالي فإن أي عملية سلمية ستؤدي بالضرورة إلى خسارة إسرائيلية على اعتبار أن المفاوضات ستفضي إلى ما يمكن تحقيقه وفقاً لميزان القوى على الأرض، وهو ليس في مصلحتها برؤية تتصل بمسعاها للاحتفاظ بأكبر مقدار من الأرض. ثالثاً وهو أكثر الأمور أهمية ويجب النظر إليه بعناية شديدة قبل التورط برمي الآمال جزافاً على هذه (الدفعة) السلمية الأميركية. إن إقامة دولة إسرائيل أتى على حاملة تبلور نظامين عالميين. فبعد الحرب العالمية الأولى أتى وعد بلفور وبعد الحرب العالمية الثانية أتى قيام الدولة. ولهذا، فوجود إسرائيل أو تغير وضعها مرتبط بالنظام الدولي. والنظام الدولي اليوم في وضعية مختلفة؛ فهو لم يتبلور بعد. وهو يمر بمرحلة انتقالية قد يستفيد منها العرب. ولكن لا يوجد ما يهيئ للقول بأن الانتهاء من الصراع العربي - الإسرائيلي، كساحة عمليات دولية - إقليمية لاختبارات القوى والنفوذ، هو قرار دولي. فضلاً عن أن الوضع الحالي هو وضع (عدم القطبية)، ما يعني أن لا قوى عالمية تستطيع أن تفرض السلام أو متغيرات جيوسياسية ومنها إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، إلا في غفلة من القوى الإقليمية أو في لحظة منفلتة من الحسابات الدقيقة؛ الأمر الذي يجعل كل تصور عن سلام هو بمثابة (احتمال). وإذا عمل من هو ضده على حساباته جيداً فإنه يستطيع أن يجهضه بسرعة. * كاتب سوري