في ليلة صيفية من ليالي البحر والموال وفي أحضان ذلك المقهى المكشوف المستلقي على الشاطئ كان لقائي الأول به . حالة من اختلاط المشاعر وبلل الروح امتزجت داخلي وكأن ذلك المساء يخبئ لي خلف ظهره هدية فاخرة ملفوفة بعناية فائقة . عندما حضرت للمكان وقعت عيناي على رجل يرتدي حلة من البياض وكأنه نسج من قلبه بياض هندامه .. كان يجلس كعود خيزران تحركه نسائم البحر إلى جوار توأم روحه الأستاذ محمد دياب . ما أن أقبلت حتى بادرني بابتسامة تشبه عذوبة ماء الجبل وقطرات الندى الغافية على كف أول زهرة يقبل ثغرها عطر الربيع . عرفت من أستاذي الدياب أنه الدكتور فؤاد عزب القادم من رحلة طويلة خارج حدود الوطن كطائر مهاجر عاد ليغمس جسده النحيل في دفء الأماكن . حقا إنه هو سيد الأربعاء الذي يفتح نافذته صباحا وينثر على قلوبنا كلمات من نور تنتشلنا من بين اليأس وبراكين الوجع .. إنه هو برغم ظلم الصورة له ، فهو أعمق من كل الإطارات التي وإن حبست كل جسده إلا أنها لن تستطيع تكبيل نبضه الذي يأتي عبر السواحل والمحيطات والغابات العتيدة . إنه الفؤاد - كما أسماه الراحل الأبيض عبدالله الجفري - الذي استطاع احتواء كل صعوبات الحياة وسوداويتها لبثها مرة أخرى في أجمل تفاصيلها . هناك حيث اللقاء الأول تنصلت من سطوة الوقت واختبأت خلف أشرعة روحه وأخذت أتعرف بهدوء كلماته وهمسه العذب على تفاصيل الحياة وكأنني رسام يعزف بفرشاته فوق بياض لوحة عذراء تفاصيل الماضي التي انهمرت بكل شوق مع الألوان . كنت أعتقد أنني في زمن البؤساء حيث لا مساحة لوجه ألفته الأبواب الخلفية والتسكع على بقايا غبار المارين من فوق الأجساد ، وكنت أظن أنني وشاكلتي مجرد رقم يقبع في الخانة اليسرى لمجرد الكثرة فقط . ولكنني من خلال الترحال خلف أيامه وأحلامه استطعت أن أطرق الأبواب الأمامية وأقتحم عوالم المستحيل وأن أجد لنفسي خانة محسوسة كبقية القيم . في حضرة الدكتور فؤاد عزب لا تشعر بتلك الرغبة الجامحة التي كانت تسكنك بتملك زيف الحياة .. تشعر بحالة من الزهد الصوفي الشفاف وكأنك طائر يسكن قمة جبل ينظر لكل ما يحيط به بعينٍ نقية . معه تسمح لنفسك أن تتعلم كل شيء دون قيود بل وتوبخها إن حاولت التراخي . بالأمس القريب كنت في معيته فاتحا ذراعيه لي بصدق وصفاء وفي قلبي سؤال يكاد يشق صدري .. كيف سترد الجزاء ؟ وما نفع كلماتك أمام فيض الجود ؟ خجلت من أجوبتي فنهرتها وانصرفت وعدت لفؤاد الدكتور أرسم عليه باصبعي وردة ونهر وأحرف من وفاء .