كان ذلك في زمن مضى كأنه الحلم الذي يخطر على البال ولا ترى منه إلا أطيافاً قد تكون باهتة ولكنها ذات ملامح راسخة في الذهن المكدود الذي من مميزاته حفظ كل قديم لأنه منقوش في ذاكرة "ناصعة البياض" قادرة على الحفظ والاحتفاظ. كنا أيامها طلبة في المرحلة الابتدائية في ذلك المبنى العتيق المبني بذلك الحجر الأسود المنقوش بأناقة، ذا الطوابق الأربعة بجانب المسجد النبوي الشريف إنها مدرسة العلوم الشرعية. لازالت الذاكرة تحتفظ بذلك المشهد المهيب كان يوم خميس عندما مدت موائد الغداء في ذلك الفناء داخل المدرسة وكانت رائحة "البرياني" وبجانبه الزردة بالزعفران تشق الانوف، وبعد أن تناول الطلبة غداءهم المعتاد كل عام وقف ذلك الرجل بلباسه الهندي الشهير وبجانبه مدير المدرسة المرحوم السيد حبيب أحمد والأستاذ عبدالرحمن عثمان ذلك الرجل المهيب، وراح ذلك "الرجل الهندي" يوزع قطعة قماش وريالين فضة على كل طالب من الواقفين في الطابور وقبل وصولي إليه بثلاثة "طلاب" خرجت من الطابور عندها قال لي السيد حبيب رحمه الله لماذا يا ابني خرجت من الطابور؟ قلت بصوت خافت بل مرتجف: أنا لست يتيماً، كأن وقر في نفسي أن من يأخذ قطعة القماش "السليطي" والريالين الفضة هم الأيتام فقط، وفشل السيد في اقناعي بأن هذا للكل فما كان منه إلا أن أخرج قلم شفر واحد وخمسين ذو الغطاء المذهب ويضعه في جيبي الصغير، حيث احتفظ به حتى الآن. تذكرت هذه القصة وأنا أتابع يوم اليتيم الذي رعاه أمراء المناطق قبل أيام، إنها لفتة إنسانية وتربوية غاية في الأهمية، فهؤلاء في حاجة إلى لمسة فيها كل معاني الأبوة والرعاية.