“كداد.. التاكسي الأسود”.. مهنة برزت على السطح في مجتمعنا في الآونة الأخيرة، بسبب تزايد البطالة وارتفاع الأسعار وأشياء أخرى.. ملخصها أن أحدهم يذهب من وإلى المطار بسيارته الخاصة، حاملا معه الركاب دون تصريح بمزاولة هذه المهنة، أو ترخيص له من الجهات المعنية.. والحجة هي كسب العيش.. لكن هذه المهنة التي قد تبدو بسيطة وعادية في أعين كثيرين، تخفي وراءها كثيرا من الدوافع والأسرار.. تلك التي دفعتني للقيام بمهمة خاصة بين هؤلاء من خلال العمل “كداد تاكسي أسود” ليوم واحد.. لعلي أقف على ما وراء الأسوار من أسرار.. فما تلك الحكاية؟ وكيف كانت البداية؟ مراودة كنت مسافرا على متن الرحلة الجوية رقم 1932 المتجهة من جدة إلى الرياض.. عندما هبطت أرض مطار الملك خالد الدولي.. نزلت من الطائرة إلى الصالة الداخلية، فوجدت نفسي بين مجموعة من الرجال.. أقبل أحدهم نحوي، ومد يده محاولا أن يحمل حقيبة سفري من يدي.. شعرت بأن المحاولة هدفها إجباري على الركوب معه، ليذهب بي إلى حيث أريد.. أخذ بعضهم يعرض خدماته المجانية، وبدأ يصف سيارته التي ستحملني معه.. وقع في نفسي أن هؤلاء هم من يطلق عليهم تعبير “التاكسي الأسود”.. يختبئون بين المغادرين والقادمين من السفر، لكي يفوزوا براكب أو أكثر، يكسبون من ورائه لقمة عيش، تكفيهم ذل السؤال.. صحيح أن هناك سيارات “ليموزين” مخصصة لنقل المسافرين إلى حيث وجهتهم.. لكن هذا لا ينفي وجود هؤلاء بكثرة على أرصفة المطار وبواباته.. لم أستطع أن “أفتك” من هؤلاء الذين أخذوا يلحون ويراودونني عن حقيبتي، إلا بعد أن أقسمت لهم أيمانا مغلظة أن سيارتي تنتظرني في مواقف المطار ولا حاجة لي إليهم. مهمة خاصة في طريقي إلى المنزل، بدأت أفكر في الأسباب التي أجبرت تلك الفئة من الشباب على العمل والانتظار، الذي قد يصل لساعات طويلة في صالة استقبال المسافرين، حتى يحصلوا على مبلغ ليس بالكبير، من زبائن مطار الملك خالد الدولي.. قررت حينها خوض التجربة وممارسة العمل ككداد” لعلي أكتشف أسرار هذه المهنة وأقف على دوافعها.. وبدأت التساؤلات تتكالب على ذهني: هل هذه المهنة محاربة من قبل رجال أمن المطار أم لا؟.. وما العلاقة بين سائقي “الليموزين” المصرح لهم بالعمل من قبل إدارة المطار، وبين رجال “التاكسي الأسود” الذين أشك في أنهم قد سمح لهم بالعمل ككدادين”! على رصيف الانتظار في اليوم التالي، وتحديدا عندما كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف عصرا، توجهت إلى مطار الملك خالد الدولي.. أوقفت سيارتي في مواقف المطار، وتوجهت إلى صالة الاستقبال الكبرى، وتوجهت فورا إلى شاشة الرحلات الداخلية.. أخذت أستعرض رحلات اليوم القادمة والمغادرة.. لم أستطع حينها تحديد رحلة ما لكي أستقبل زبائنها.. ربما لكثرة المواعيد والأرقام التي لم أستطع ترجمتها، وأسماء المدن الكثيرة.. وقفت برهة من الزمن حتى وجدت عديدا من الالكدادين” بدأوا يتوافدون، ويتزاحمون أمام بوابة القادمين.. عندها أدركت أن هنالك رحلة على وشك الوصول.. وقفت في طابور الانتظار قليلا.. بدأت الأعين تتفحصني بشدة، وكأنهم يقولون لي “ابتعد من هنا”.. أحدهم بادرني بالحديث.. بعد أن عرفني بنفسه – أبو متعب – سألني: “الأخ مسافر؟”.. أجبته أنني أنتظر أحدهم، لكي أذهب به وأكسب رزقي.. قال لي وهو على عجالة من أمره: “أنصحك بألا تقف هنا، فالأجواء غير مطمئنة ولا تناسبك بتاتا.. فاذهب إلى الدور الأول وانتظر عند البوابة التي يخرج منها المسافرون لمواقف السيارات.. هناك سوف تجد رزقك بكثرة وبأمان أيضا”. الخداع قبل أن ينهي ذلك الرجل حديثه إلي، بدأت أتفحصه بعيني.. لاحظت ثوبه الجديد والشماغ الأحمر الذي يرتديه، وذلك القلم يضعه في جيبه الأعلى من ماركة “ماونت بلان” الشهيرة.. ورائحة عطره النفاذة تخترق جيوبي الأنفية.. كل تلك الإكسسوارات لم أكن أتخيل أن أجدها مع أحد الكدادين الذين يسعون جاهدين وراء رزقهم، ولا يهتمون كثيرا بمظهرهم الخارجي.. لكنني اكتشفت أن كل ذلك هو مجرد خدعة ليس إلا.. حتى يتسنى لهم أن يراوغوا رجال الأمن، الذين يكافحون تواجدهم، ويسعون لإنهاء تواجدهم في مطار الملك خالد الدولي، باعتباره مظهرا غير نظامي وغير حضاري أيضا. لوحة إرشادية وقفت أمام بوابة خروج المسافرين التي تطل على مواقف السيارات، حيث لم يطل انتظاري كثيرا.. بدأت أفواج المسافرين تتجه صوبي.. لم أستطع أن أتحدث مع أحدهم لكثرتهم ولاستعجالهم.. فهذا يتحدث عبر هاتفه الجوال، وآخر مشغول بالحديث مع من سيستقبله.. مجموعة من الشباب قادمة نحوي تتعالى أصواتهم ضحكا وفرحا باجتماعهم الذي طال انتظاره.. رجل كبير في السن ينادي طفله المشاغب.. بين هؤلاء جميعا وقف رجل مسن عند بوابة الخروج، موجها نظراته إلي، وقد رسمت على محياه ابتسامة غريبة.. تجاهلت الرجل وابتسامته، كأنني لا أراه، وتشاغلت بمهمتي التي أريد أن أصل بها إلى منتهاها، وهي التعرف على مدى التعب والمشقة التي يتحملها الشاب السعودي للحصول على رزقه، بمجرد تحميل سيارته بأكوام من المسافرين، والذهاب بهم شمالا أو جنوبا عبر طرقات العاصمة الرياض.. لم ينصت إلي أحد.. بل لم يعرني أحدهم انتباهه. تترامى نظراتهم إلي كأنني تلك اللوحة الإرشادية، ينظرون إليها، ثم يصرفون النظر فقط لا غير. اشمئزاز لم يزل ذلك الرجل المسن يترقبني مبتسما، وأنا لا أزال على حالي متجاهلا نظراته.. مثلت تلك النظرات والابتسامات ضغطا نفسيا علي.. حتى أتخلص من ذلك التأثير قررت أن أجبر أحدهم على الوقوف والتحدث معي ولو لثوان معدودة، حتى أتمكن من معرفة السبب الذي يجعلهم يخافون الركوب معي وتفضيل “الليموزين”.. فجأة جاء شاب ومعه طفلان.. كانوا قادمين نحوي.. وقفت أمامه مباشرة وبادرته بالسلام والترحيب.. قلت له: “تريد تاكسي أو تريد أن أوصلك إلى مكان ما”.. أجاب باشمئزاز، وبدا عليه الضيق من سؤالي له وعرض خدماتي عليه.. شكرني وانصرف عني مسرعا، وهو يمسك بيد طفله الصغير.. صعد الدرج الكهربي واختفى عن الأنظار. لماذا؟ لم أعلم وقتها السبب الذي يجعل كل من عرضت عليهم خدماتي، يتخوفون مني ومن الذهاب معي، رغم أنني شاهدت معظمهم يستقلون سيارات “الليموزين” ويذهبون معها.. لم أكن حينها مصرا على أن أحصل على أجرة التوصيلة، بقدر حرصي الشديد على محاولة الحصول على زبون واحد، لكي أتحدث معه.. لأنني لم آت إلى المطار إلا لغرض إتمام مهمتي الصحافية، والعودة أدراجي سالما.. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. الرجل المسن بعد أن طال انتظاري، اتجهت إلى ذلك الرجل المسن، الذي كان لا يزال يترقبني بنظراته مبتسما.. سلمت عليه وسألته إن كان يعرفني من قبل.. أجابني: “لا أعرفك ولم أرك من قبل، ولكنني معجب بحرصك الشديد للحصول على زبون، كي تذهب به وتكسب رزقك كالآخرين”. وأضاف: “بصراحة أنا أرى أن ما تقوم به كبقية الشباب الذين يحترفون هذه المهنة، وهي العمل في المطار، أمر يثلج الصدر، بدلا من التسكع في الشوارع”. وقال: “هذا دليل على الكفاح الذي تتحلى به كبقية الشباب المكافح.. هذا عمل شريف يدر عليك مبلغا محترما بجهدك واجتهادك، بدلا من أن تطالب الآخرين أن يعطوك أو يقرضوك مبلغا تقضي به أمورك الخاصة”. حكاية أبو مصعب قاطعت ذلك المسن وقلت: “لكن على الرغم من عملنا هذا، فإننا نواجه عديدا من المضايقات من قبل رجال أمن المطار، وكذلك النظرات الغريبة وغير اللائقة من قبل سائقي “الليموزين”، الذين يتهموننا بسرقة زبائنهم.. على الرغم من أننا نبحث عن رزقنا مثلهم”.. ثم سألته عن سبب وقوفه هنا، لأكتشف أنه ينتظر هو الآخر زبائنه من المسافرين، الذين سيوصلهم مقابل مبلغ مالي. خرجت الكلمات من فم الرجل المسن بثقة كبيرة، وكأنه يعلم أن هناك زبائن ينتظرهم، وأنه على موعد معهم.. قال الرجل لي: “الأرزاق بيد الله سبحانه، وأنا أعمل هنا في المطار “كداد” منذ قرابة ثلاث سنوات، وأعرف عديدا من الكدادين في المطارات الأخرى، وهم يوصلون المسافرين للمطار الذي هم فيه، ويخبرونني أن أنتظرهم في مطار الملك خالد الدولي لأستقبلهم.. فهم يعرفونني باسمي الذي اشتهرت به وهو “أبو مصعب” الأمر الذي يجعل الزبون يسأل عني، منذ أن تطأ قدمه المطار، وهكذا يصبح الزبون ملكا لي فقط”. حال الكدادين الانتظار بالمطار قد يصل ب”الكداد” لساعات طوال.. يتخللها محاولات الهرب والتخفي عن أعين المسؤولين.. الكلمات تتطاير هنا وهناك بحثا عن مبلغ من المال الذي ربما لا يتجاوز ال80 ريالا، بعد كل هذه الساعات.. وقد يعود الكداد من هذا الانتظار ب”خفي حنين”.. هناك “كدادون” يطلبون بالاسم لشهرتهم الكبيرة في المطارات السعودية، وآخرون لا يزالون يؤسسون لأنفسهم اسما، ويحاولون أن يثبتوا جدارتهم، لكي يكسبوا مودة الزبون ومن ثم ماله الوفير. هذا هو حال سائقي “التاكسي الأسود” في مطارات مملكتنا الحبيبة.. فهل نجد في المستقبل القريب من يلتفت إلى وضعهم، ويتم تشكيل هيئة تنظم أمورهم، وتحدد طريقة تعاملهم مع المسافرين، توفيرا لسلامة المسافر وضمانة لحق الكداد ورعاية لظروف عيشه؟! إنها نافذة لا بأس بها لإيجاد فرص عمل شريف للشباب الذي يعاني شبح البطالة ويكابد اتساع وقت الفراغ.. فهل من مجيب؟!