معنى هذه الكلمة الجميلة هي «في هذا الوقت» أو «الآن». ونستخدمها بدون أن نتأمل في روائعها القياسية أو الفلسفية...كم مرة توقفنا لننظر في الفترة الزمنية المقصودة «بدلحين»... إحدى التحديات هنا هي أن عقولنا تدرك الحاضر، وما هو دون ذلك فيدخل في ذاكرة الماضي، أو تأملات المستقبل... أثناء كتابة هذه الكلمات استمتعت بحوالي ثلاثين حبة عنب من تبوك الغالية، وكانت كل منها مقرونة بلحظات لذيذة تؤكد على نعمتين: نعمة الفاكهة الجميلة نفسها، ونعمة اللحظة الرائعة التي كنت أستمتع بها بأكل كل منها. كان «الدلحين» مقرونا بنعمة العنب أثناء الكتابة. ومما لا جدال فيه أن هذا المفهوم الحسي يتكون من فترة زمنية معينة، وإلا فلا يمكن أن نشعر بالحركة، ولن يمكن أن نتذكر لحظات معينة مقرونة بتجارب... مثل حبات العنب المنفردة. وتشير الدلائل العلمية من دراسات مختلفة أن طول الفترة الزمنية التي نُعّرف بها مفهوم الحاضر «الآن» تتراوح من ثانيتين إلى ثلاث ثوان فقط... وهي الفترة التي نحتاجها للبسمله: لو قست الفترة الزمنية للفظ تلك الكلمات الرائعة «بسم الله الرحمن الرحيم» فستجد أنها حوالي ثانيتين إلى ثلاث ثوان... يعني بالرغم من قدرة عقولنا على تقنين فترات زمنية حسية أقل ذلك بكثير، إلا أن البشر يجمعون أن «الآن» يستغرق تلك الفترة. لنتوقف لحظة هنا للتأمل في ذلك: بعض الحواس مثل السمع تدرك بلطف الله فترات زمنية قصيرة جدا تصل إلى جزءين على الألف من الثانية لنتعرف على مصدر الصوت من جهة معينة، أو لندرك بإرادة الله حركة معينة. وفي الواقع، فالحواس البشرية تعمل بلطف الله بدقة لتستشعر الإشارات الكهربية الإعجازية بداخلنا بأجزاء من آلاف الثانية. وذلك لإيصال الإشارات المختلفة لتعريف فترة «الآن»، ولكن عقولنا تجمع كل هذا وتضعه في قوالب الثانيتين إلى ثلاث ثوان لتصبح تلك الفترة الزمنية كأنها أجزاء الأبجديات الأساسية التي نبني بها مفهوم «دلحين». والجميل هنا هو أن مفهوم الحاضر يفتح مجموعة أبواب لاستيعاب قدرات البشر المختلفة للانتباه والتركيز وإدارة الذاكرة. كلما ارتقت قدرات البشر على إدارة تلك النافذة الزمنية الصغيرة، ارتقت قدراتهم على العمل المفيد... وكلما ضاعت تلك القدرة فستفتح مفهوم «الطراوة» في أقوى أدواره. وللأسف نجد اليوم أن قدراتنا على التركيز أصبحت مشتتة لدرجة أن هناك العديد من الناس الذين ليست لديهم القدرة على إدارة «دلحين» بفاعلية، بل وليست لهم القدرة على التخطيط لمستقبلهم بدقة، ولا يستطيعون الاستفادة من تجارب الماضي بحكمة... يعني لا حاضر، ولا مستقبل، ولا ماضي. ولكن الأسوأ من ذلك هو هناك مجموعات، بل وبلدان بأكملها تفتقد للقدرة والرغبة في ذلك. أمنية كلما استطاع الإنسان أن يركز على مكونات «الدلحين» بدقة، وفقه الله في كسب إدارتها. ولا نحتاج إلى المواعظ لإدارة الوقت فما أكثرها في حياتنا، ولكن لو تأملت في بعض الأمور التي قد تبدو وكأنها بسيطة جدا ستجد أنها تحتوي على أكبر المكاسب. فضلا تأمل في تلك اللحظات البسيطة في كل صلاة وبعدها، التي نذكر فيها الله ونحمده. ستجد أنها من أهم أدوات التركيز على مكونات الحاضر، ففيها تقنين لنعمة الوقت، وتأطير لحدوده من خلال التركيز التام في الصلاة، ثم الذكر بعدها. أتمنى أن نتذكر أن تلك اللحظات المركزة في العبادة تمثل إحدى أروع النعم لإدراك قيمة الوقت وهي من أجمل ما أكرمنا به الله عز وجل.. وهو من وراء القصد.