انتهى الوقت الذي نضع فيه رؤوسنا في التراب لنختبئ عن رؤية ماذا يجري في سوريا وإلى أين يتجه هذا البلد الذي مزقته الصراعات السياسية والاجتماعية والتاريخية، فلا بد من تحليل هذه التحولات الديناميكية على الأرض السورية لنتعرف عن ملامح المستقبل. وإذا فعلا صحت التنبؤات والتحليلات بسقوط قريب ومفاجئ لنظام الأسد، فإن الوقت جد مناسب وضروري لبحث شكل الدولة المقبل، إذ أن أحد الأسباب التي فجرت الأزمة السورية هو التراكم التاريخي لممارسات نظام البعث ودوره في تكبيل التفكير السوري وعدم إفساح المجال لبقية التيارات السياسية للإدلاء برأيهم والمشاركة في صناعة هذا البلد. ليس سرا أن هناك مخاوف إقليمية ودولية عن هوية ونوعية القوى الرئيسة التي ستحكم هذا البلد، وهذا القلق نابع من ضبابية المشهد السوري وصعود وسقوط بعض القوى دون ثبات قوة بعينها، إذ أن مؤشر اللاعبين الرئيسيين في الأزمة السورية – خصوصا من طرف المعارضة - يتغير بتغير الموجة الدولية، ولكن في كل الأحوال لا يمكن إنكار تنامي القوى الإسلامية في سوريا هذا التنامي الذي نتج عن تجاذبات وإسقطات أنظمة الحكم في سوريا ومن هنا يمكن تفسير الحالة المتقلبة للمزاج الإسلامي السوري، حيث لم تكن مدة الصراع التي استمرت طوال أربع سنين من إرساء صورة واضحة ومجسدة للقوى الإسلامية على الأرض. لكن مع ذلك اتجاه واحد يسيطر على كل شرائح الوسط السوري المعارض بضرورة وخصوصا المسلح على وجه التحديد أن يكون الفصل للقوى الإسلامية المقاتلة.. لكن من هذه القوى!؟ بخروج داعش من مزاد القوى المؤهلة لأن تكون مرجعية سياسية واجتماعية للمجتمع السوري، بعد أن كشفت عن وجهها القبيح بات ممكنا توصيف هذه القوى الإسلامية الصاعدة، ويمكن حصر هذه القوى بشكل رئيسي في قوى معتدلة تنتشر في الشمال والوسط السوري ومحيط دمشق في ريفها. هذه القوى استمدت شرعيتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية من طبيعة الثورة السورية الشعبية والثاني من واقع تعبيرها عن وعي وفكر المجتمع السوري المعتدل، وإذا ما أريد لها أن تتمكن من التحكم بمفاصل الوعي السوري، فإن ذلك يقطع الطريق على كل القوى المتطرفة من أن تكون أحد محركات الحالة السورية، أمر آخر يجعل هذه القوة مؤهلة لصياغة مستقبل سوريا، ومحاربتها وبشكل مباشر لا جدال فيه لتنظيم داعش الإرهابي في إدلب وفي ريف دمشق الأمر الذي شكل رأيا عاما سوريا بضرورة قطع الطريق على هذه القوة الظلامية «المتأسلمة». من هنا، يمكن أيضا قراءة مستقبل الأقليات في سوريا في حال تنامي هذه القوى واعتماد الدول الإقليمية والعالمية عليها كقوى فاعلة مؤثرة على الأرض. في العام الماضي، جرت نقاشات «سرية» اتسمت بالعمق والجدية بين المجلس العسكري ووفود من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي بإشراف معهد كارتر الدولي، حول مستقبل الأقليات، كان المجلس العسكري في هذه النقاشات واعيا لطبيعة المجتمع السوري وحالته التاريخية، أكد خلالها أن سوريا منذ أن أنشئت كانت بمساهمة هذه الأقليات التي لا يختلف أحد على دورها في مستقبل سوريا. وعكس المجلس العسكري صورة مبسطة للانسجام المجتمعي والطائفي في سوريا بعد سقوط الأسد، بل إن الأسد ذاته كان يخشى تماسك المجتمع السوري في ثورته، إلا أنه وبكل أسف استطاع أن يسبب شرخا في هذا النسيج الطائفي المتنوع، وانتهى النقاش بضمانات المجلس ألا يكون الاقتتال الطائفي أمرا يهدد أي عملية انتقالية تكون محصلة الأسد فيها صفرية. أمر آخر أوضحه أحد القادة العسكريين الميدانيين من أن الواقع السوري بعد هذه الثورة لم يعد يحتمل دما جديدا مهما كانت الأسباب، لأن وحدة الدم السوري اجتمعت فقط ضد نظام وليس طائفة، وزاد لو أن المجتمع الدولي ترك السوريين لوحدهم لكانوا أحرص منهم على صون حقوق هذه الأقليات، وساق أمثلة على وجود الدروز في إدلب. وفي مقابلة لافتة مع إحدى الصحف الأمريكية قال أحد قادة جيش الإسلام إنه إذا نجحنا في إسقاط النظام سندع الشعب السوري يقرر نوع الدولة التي يريد، وبالنسبة للتعايش مع الأقليات فإنه حاصل في سوريا منذ مئات السنين، نحن لا نسعى لفرض سلطتنا على الأقليات أو لقمعهم. إن وحدة التبرير لواقع الأقليات السورية وإجماع النخبة الإسلامية المعتدلة في سوريا على تاريخانية التنوع السوري كفيل ألا تقع أية حالات انزلاقات طائفية منظمة، ومهما كانت الأخطاء المحتملة في ارتكاب أية أخطاء طائفية لن تقارن بحجم القتل الذي مارسه النظام ضد الشعب السوري.