كنت في صغري أحضر مجالس العلم وأسمع ما فيها من أحاديث، وفي بعض الأوقات يأتي هذه المجالس رجلٌ أو صبي، وربما جاءت امرأة، فأخرج إليها بحكم صغر سنِّي، فأجد عندها زجاجة من ماء أو زيت، فآخذها منها وأدخل بها على المشايخ، فكان كلُّ واحدٍ منهم يقرأ آيةً أو آيتين، ثم أعيدها إليها فتذهب لشأنها، وكنت أسمع من حديثهم الكثير من الحكايات، فمن ذلك أن أحدهم يروي عن مريض جاء من مكان بعيد، فرقاه الشيخ بالبسملة والفاتحة، فقال المريض: آتيك من مكان بعيد ولا تَرْقِيني إلا بالبسملة! وكأنَّه تقالَّ البسملة، فنهره الشيخ وعرَّفه بعظيم فضل البسملة، ويروي أحد الحضور في ذلك المجلس عن والده، وكان من الرُّقاة المشهورين، أن مريضا جاءه من البادية، فقرأ عليه فَشُفِيَ مِن مرَضه، وكان من عادة هذا الرَّاقي ألا يأخذ مالاً على الرُّقية، فدفع المريضُ شيئاً من المال لابن الرَّاقي خِفْيةً، فأخذها أما اتخاذ الرُّقية مهنةً من المهن وباباً من أبواب الرزق، فهذا لم يعهدْهُ الناس من قبل، بل كان كثيرٌ من الفقهاءِ لا يأخذونَ أجراً من المريض، ولم يكن من أخلاقهم أنْ يبيعوا للمَرقيِّ ماءً ولا زيتاً ولا عسلاً، وإنما يرجون أجْرَ الله تعالى وثوابه، وربما قصدوا الترفُّق بالمرضى، وخاصَّة الضعفاء والفقراء منهم، ولقد كنا نرى ونسمع فيما مضى أنَّ بعض الفقهاء يخصِّصُ وقتاً لرقية الناس حُسْبةً لله. الصَّبيُّ، فلما خرج المريض، وفطِنَ الرَّاقي أنَّ ابنَه أخذ شيئاً من المريض، ضربَه وأمرَه أنْ يلحق بالمريض ويعيد إليه المال، فأخْذُ المال على الرُّقية جائزٌ إذا حصل الشِّفاء، كما قال ابن عبد البرٍّ: (وهذا إنما يكون إذا صح الانتفاع بها) وأين هذا من كثير من الرُّقاة اليوم، هَمُّهُ الحصول على المال، وكان عليه أن يحملَ هَمَّ علاج المريض، ثم إنَّ الأصل في الرُّقية أن يَرْقِيَ الإنسانُ نفسَه، فحين اشتكى رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجعاً في جسده قال له: (ضع يَدَك على الذي يَأْلَمُ مِن جسدك، وَقُلْ: بسم الله ثلاثا، وقلْ سبعَ مرات: أعوذ بالله وَقُدْرَتِهِ مِن شرِّ ما أَجِدُ وأُحاذِرْ) وقد كان مِن هدْيه صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، أنْ يَنفُثَ في كفَّيه بقُلْ هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بَلَغَتْ يداه من جَسَدِه، قالت أمُّنا عائشةُ رضي الله عنها: (فلمَّا اشتدَّ وَجَعُهُ، كنت أقرأ عليه وأمسح بيده، رجاءَ بَرَكَتِها) ومِن هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا عاد مريضاً كان يقول: (اللهم ربَّ الناس، أَذْهِبْ الباس، اشفِهِ وأنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤكَ، شفاءً إلا يُغادر سَقَماً) وهكذا كان الناس يلجؤون للقرآن يستشفون به، أما اتخاذ الرُّقية مهنةً من المهن وباباً من أبواب الرزق، فهذا لم يعهدْهُ الناس من قبل، بل كان كثيرٌ من الفقهاءِ لا يأخذونَ أجراً من المريض، ولم يكن من أخلاقهم أنْ يبيعوا للمَرقيِّ ماءً ولا زيتاً ولا عسلاً، وإنما يرجون أجْرَ الله تعالى وثوابه، وربما قصدوا الترفُّق بالمرضى، وخاصَّة الضعفاء والفقراء منهم، ولقد كنا نرى ونسمع فيما مضى أنَّ بعض الفقهاء يخصِّصُ وقتاً لرقية الناس حُسْبةً لله، فلا يطلب منهم إلا دعوةً صالحة يرجوها، ولم يبْقَ من هؤلاء إلا القليل، إنني أكتب في هذا الموضوع لِمَا أَسْمَعُه من منكراتٍ كثيرةٍ تقع من هؤلاء الرُّقاة، فَيَبْلُغ الكذب من بعضهم أن يزعم أن المريض مصابٌ بعين، أو مصابٌ بسحر! وأن الذي سحره فلان! وإذا بالمريض يُصدِّق هذا الزَّعْم، فما أكثر مَن يهاتفني، ويقول سحرتني جارتُنا أو قريبتُنا، فهل يجوز أن أذهب لساحر ليحلَّ السحر؟ فوأسفاه، ذَهَبَ للرَّاقي يتطلَّبُ الشفاء بالقرآن، فإذا بالرَّاقي يزيده رهقاً، فيأخذُ منه ما شاء الله من المال، بدعوى أنه يحتاج لعدَّة جلساتٍ للرقية، ثمَّ يوهمه أنه مسحور بسحر كبير لا يُحلُّ إلا بالسحر، إنَّ واجب الفقهاء أن يُبيِّنوا للناس أنه لا يحلُّ للرُّقاة أن يحصلوا على شيء من المال لمجرَّد القراءة، نعم إذا حصل الشفاء بإذن الله يجوز له أَخْذُ شيءٍ على الرقية، وعليهم أن يُبيِّنوا للناس أنَّ الرَّاقي لا يعلم الغيب، وأن دعواه أن فلاناً مسحورٌ ظنٌّ يظنُّه أو يتوهَّمه، فإنَّ أحداً لا يمكن أن يجزم أن فلاناً به سحرٌ أو عينٌ، فضلا عن أنْ يعرف مَن هو الساحر أو العائن، وإنما هي ظنون، فإنْ جَزَمَ الرَّاقي بذلك فهو كذاب يَجبُ تأديبه .